"الفاصلة القرآنية" في القرآن.. جمالية الجرس وتقوية المعنى

في الحلقة الرمضانية "18" مع دكتور البلاغة والأدب "زيد الخريصي"
"الفاصلة القرآنية" في القرآن.. جمالية الجرس وتقوية المعنى

أدركَ الباحثون والمهتمون بتدبّر آيات الله، أن الفاصلة القرآنية، تُعد من صور إعجازه التي تصف بليغ صُنعه - جلَّ في عُلاه - في الآيات وتراكيب الكلام، وتزيده قوةً في المعنى، وبلاغةً لا يضاهيها كلام البشر، وتجعل المتدبّر له يُدرك التناسب البديع بين الفاصلة وآياتها، وأثرُ ذلك على معنى وتفسير كل آية ويجعلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما قبلها من الآيات والمعاني الإلهية.

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الثامنة عشرة" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعضٍ من بلاغة "الفاصلة القرآنية" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍّ طوال شهر رمضان المبارك، دكتورَ البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

قال "المتخصص": تعد الفاصلة من أهم ما يميز كلام الله -سبحانه- عن كلام البشر من شعر أو نثر، وأحد صور الإعجاز في تعانق الآيات فيما بينهما، وتعرف الفاصلة أنها: "كلمة آخر الآية، كقافية الشّعر، وقرينة السّجع"، وسميت الفاصلة بهذا الاسم؛ لتنزيه كلام الله -سبحانه- عن كلام غيره، ولئلا يطلق عليه ما يطلق على (سجع الكهان)، يقول السيوطي:" وأظنّ أن الذي دعاهم إلى تسمية جلّ ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعاً؛ رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة، وهذا غرض في التسمية قريب".

وواصل "الخريصي": وعني المتقدمون بالفاصلة القرآنية، وأفردوا فيها المؤلفات، منها: (بغية الواصل لمعرفة الفواصل)، لنجم الدين الطوفي، و(الفرائد الحسان في عد آي القرآن ومعه شرحه نفائس البيان) لعبد الفتاح القاضي، و(النُّكَت في إعجاز القرآن) للرمّاني، و(إعجاز القرآن) للباقلاني، و(معاني القرآن) للفرَاء، و(مجاز القرآن) لأبي عبيد، و(البرهان في علوم القرآن) للزركشي، و(الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، و(سرّ الفصاحة) لابن سنان الخفاجي.

اختلاف الفاصلة القرآنية

وتابع "دكتور البلاغة والأدب": تختلف الفاصلة في السورة المدنية عنها في السور المكية، يقول الدكتور "أحمد ياسوف": "السور المدينة تحتاج أفكارها إلى التفصيل، مثل آية الدّين، وآية الحجاب، وآيات التّوريث، فهذا يحتاج إلى دقّة تشريعية، وكذلك الأمر في العتاب والأخلاق وأمور الفقه كافة، وهذا يختلف عن أسلوب السور المكية القصار التي شملت مواضيعها الترهيب والترغيب وقضايا التوحيد، ووصف الجنة والنار، وكانت نبرة الغضب والزجر لا تتطلب النّفس الطويل، فتأتي الفاصلة بسرعة، وكأن المشهد قذيفة في إثر قذيفة، كما أنّ القصص يختلف أسلوب سردها بين السّور المكية وبين السّور المدنية، وعلى الرغم من هذا لم تتماثل الفواصل تمام التماثل غالبا، وذلك لأغراض فنية عميقة".

جمالية الجرس

وأردف: للفاصلة القرآنية وقعها الخاص على المتلقي من جانبين؛ الأول من حيث النغم والجرس الذي تحدثه هذه الفواصل في نفسه، والثاني من حيث دلالة هذه الفواصل على المعاني التي سيقت من أجلها، تقول الدكتورة "آسية داحو": "إن الفاصلة القرآنية بإيقاعها الصوتي تجسد التعبير البليغ، والمعنى الجليل، والمتذوق للغة يدرك مكانها، وموقعها، وهدفها من حيث دلالة المعنى ودلالة الإيقاع، وعليه تعد الفاصلة ظاهرة صوتية تشكل لوحة جمالية، تعطي النص ميزة الإعجاز في الأداء من خلال تركيبها، وقد أسهمت في اختيار الكلمات القرآنية، التي تثري السياق، وتقوي بنية القراءة القرآنية؛ لإبراز جمال النص القرآني من منابعه اللغوية، التي تكسبنا القدرة على التذوق، وتوصلنا إلى صورة مثالية مقنعة؛ لإدراك عظمة كتاب الله".

شواهد وآيات

وعن شواهد الفاصلة القرآنية في القرآن الكريم، قال الدكتور "الخريصي": منها ما جاء، في قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "المائدة ١١٨"، إن المتأمل لهذه الآية عندما يقرأ {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ}، يتوقع أن تكون الفاصلة من جنس المغفرة، وهي (الغفور الرحيم)، إلا أن الفاصلة جاءت خلاف ذلك، والّسر في ذلك، يقول الدكتور/ أحمد بدوي: " إن قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}، يحتم أن تكون الفاصلة (الغفور الرحيم)، ولكن تأملاً هادئاً يهدي إلى أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد، يرد عليه حكمه، فهو عزيز غالب، وحكيم يضع الشيء في موضعه، وقد يخفى وجه الحكمة على الناس فيما يفعل، فيتوهم أنه خارج عن الحكمة، وليس كذلك، فكان الوصف بالحكيم؛ احتراساً حسناً؛ أي: وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب، فلا اعتراض لأحد عليك في ذلك، والحكمة فيما فعلته".

وواصل حديثه: ومن الشواهد ما جاء في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "النحل: ٧٧"، مجيء غيب السماوات والأرض، وأمر الساعة كلمح البصر أو هو أقرب، وما دلت عليه هاتان الجملتان من قدرة وقوة في تصريف الأمور، ناسب أن تكون الفاصلة {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

وختم "دكتور البلاغة والأدب": من الشواهد ما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "البقرة ٢٩"، وفي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أو تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "آل عمران ٢٩"، إن القارئ لهاتين الآيتين يظن أن الخلق يلزمه القوة، العلم يلزمه العليم، إلا أن الفاصلة جاءت خلاف ذلك، يقول الدكتور/ أحمد بدوي: "لما كانت آية البقرة عن خلق الأرض وما فيها، على حسب مصلحة أهلها ومنافعهم، وخلق السموات خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، والخالق على هذا النسق يجب أن يكون عالماً بما فعله، كلياً وجزئيّا، مجملاً ومفصلاً، ناسب ذلك ختمها بصفة العلم، ولما كانت آية آل عمران مسوقة للوعيد، وكان التعبير بالعلم فيها، يراد به الجزاء بالعقاب والثواب، ناسب ختمها بصفة القدرة القادرة على هذا الجزاء".

من لطيف الفواصل

وأتبع الدكتور "الخريصي": ذكر الطيبي عن الأصمعي، قال كنت أقرأ: {والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم}، وبجنبي أعرابي، فقال كلامُ مَنْ هذا؟ قلت: كلامُ الله، قال: ليس هذا كلامُ الله! فانتبهتُ فقرأت {والله عزيز حكيم} [المائدة: 38]، فقال: أصبتَ هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلتُ: من أين علمت؟ قال: يا هذا عَزَّ فَحَكَم، فقطعَ، ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org