أرجع أستاذ الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط، الدكتور عبدالله السيد ولد أبّاه، سبب فشل بناء الدولة المدنية في العالم العربي، إلى فكرة الأنظمة العسكرية من جانب، وإلى الانفصام بين القوة الليبرالية التي تحمل الثقافة السياسية الديمقراطية، وبين القوة المستفيدة من عملية الانتخاب والتغير والانتقال السياسي.
وقال في برنامج "في الصورة" مع الزميل عبدالله المديفر : باعتقادي الشخصي؛ لو استعرضنا تاريخ الفكر السياسي العربي الحديث لوجدنا أننا أُصبنا التاريخ السياسي العربي بمصيبتين كبيرتين المصيبة الأولى كانت فكرة الأنظمة العسكرية - أي فكرة الثورة- لماذا؟، لأن الإصلاحيين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الـ 20 بلورو نموذج الإصلاح، وهو النموذج الذي تعبر عنه بفكرة التمدن الإبر التي يستخدمها كل الإصلاحيين من "رفعت طنطاوي" إلى "محمد عبده"، وظهرت هذه الفكرة في أيديولوجية القومية العربية أنه أمام تكلس في البنيات الاجتماعية وضعف قوة التغيير والثورة هي الحل.. يجب أن تقوم فكرة الثورة، والثورة تقوم على المؤسسة العسكرية، وهناك من نظر لهذه النظرية بأن حلف المثقف الطليعي مع الضابط بتنور، هذا التحول أدى إلى انتكاسات كبيرة في مشروع الدول المدنية العربية.
وأضاف: أنا عملت دراسة قدمتها في منتدى الفكر العربي، وأثارت جدل كبير، بينت فيها أن الكلام الذي نقوله إن الاستعمار الذي قطع أوصال العالم العربي وشتت الأمة العربية مجرد أوهام، الذي شتتها هو الهندسة السياسية التي قام بها الأوروبيون هي هندسة كانت في صالح العالم العربي، وحتى اتفاقية "سايس بيكو" وهم، لأنها اتفاقية وقعها الفرنسيون والإنجليز، ولم تطبق، وحتى "سايس بيكو" كانت مهمة، وفكرتها إنشاء دول إقليمية في العالم العثماني العربي، وهي التي شكلت العراق، فالعراق ما كانت دولة موحدة، كان عندنا الموصل تابعة لبلاد الشام، والبصرة أقرب إلى الخليج فتشكلت دولة العراق بهذا المعنى، وسوريا نفس الشيء، وكذلك لبنان".
وأردف: فكرة سايس بيكو سواء طبقت أو ما طبقت كانت من صالح العرب، لأنه لم يكن هناك وحدة عربية حقيقية، فالوحدة السياسية العربية التي تعمل على تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي هذه هندسة استعمارية أوروبية أساساً، على عكس السعودية ومشروع الملك عبدالعزيز كان يختلف تماماً، وحتى الهوية السياسية في العالم العربي شكّلها الأوروبيون، فمثلاً مصر كهوية قوم وطنية مبني على التقليد الفرعوني، ووجود الهويات السياسية، والدول المركزية الوطنية مشروع بنته الهندسة الاستعمارية الأوروبية وتلقفته القوة السياسية المحلية، وكان جزء من المشروع نفسه، وهذا من صالح العرب، وبدأت التجارب المحدودة في العراق وسوريا ومصر، فهذه الأنظمة الثورية العسكرية أنا أعتبرها أول انتكاسة حقيقية لضرب تجربة الدول المدنية بالعالم العربي، وكانت مصيبة كبرى لا أول لها ولا آخر ، ودفعنا ثمنها غالياً، وهو ما زال مستمر اً، والدول الملكية التي لم تقع فيها الثورات العسكرية وضعها أحسن بكثير، أولاً بنية الدولة أثبتت أنها أكثر صلابة، أنظر ما حدث عندما إنهار النظام في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وفي اليمن إنهار المجتمع السياسي كله، بينما في الدول الملكية بناء الدولة أقوى والشرعية السياسية أرسخ، وهذه حقائق لا يمكن أن نشك فيها.
وأشار "ولد أباه" إلى أن النكسة الثانية عندما وقع الانفتاح الديموقراطي في العالم العربي وخصوصاً أنه انفتاح تم في غالب الأحيان بضغوط خارجية نتج عنه قلاقل داخلية بدءاً بالتسعينيات بوتائر متعددة، وأصبحنا أمام معضلة ثانية، أصبح هناك انفصام بين القوة الليبرالية التي تحمل الثقافة السياسية الديمقراطية، وبين القوة المستفيدة من عملية الانتخاب والتغير والانتقال السياسي، وهي وحدة من قوتين، إمّا قوة الإسلام السياسي أو قوة القبلية التقليدية، وهذه القوة هي التي أوهنت وأضعفت وأفشلت كل عملية التحول الديمقراطي، لأن القوة الليبرالية التي تحمل الثقافة الديمقراطية التعددية هشة وضعيفة وهذه الأنظمة العسكرية أفسدت وأضعفت القاعدة السياسية للدولة، فدعمت العودة إلى هذه الهويات العصبية والطائفية والدينية والعرقية.
وحول سؤال المذيع "المديفر" عن المشكلة الأكثر هل هي في الإسلام السياسي أو القبلي؟ أجاب "ولد أبَاه": أنا في رأيي أنهما هما الاثنان صارا مشكلة، فالإسلام السياسي يتبنى خطابًا مربحًا انتخابياً ، والقوى التقليدية القبلية الدينية الطائفية قوى متحكمة في مسارات اجتماعية عملية، لأنه كلما ضعفت الدولة صارت هنالك عودة لهذه الهويات وحتى إعادة اختراع، لأنه حق أعتبره، وما حدث في العراق نموذجاً، فالعراق بلد تقريباً كانت تنهار فيه المنظومة الطائفية والقبلية، ولكن مع وجود النظام العسكري أو البعثي في السنوات الأخيرة ضعفت الدولة وبدأت تنهار وبدأ الفرد يحتاج لإعادة بناء هذه الهويات يتمسك بها ، فعندما وقع التحول الاجتماعي أصبحت البنية الطائفية القبلية هي الموجودة والدولة انهارت وتلاشت.. نفس الشيء عندما وقع عملية تحول ديمقراطي وهي قوى الإسلام السياسي التي ما كانت حاسمة ولا فاعلة في التغيير نفسها، واستفادت من عملية التحول لأنها تبيع خطابًا انتخابيًا تعبويًا.