في الفيلم الأمريكي (الحموقراطية) لمايك جادج يصوِّر فتى غبيًّا، يسأم المجتمع من تصرفاته الحمقاء وسلوكياته الشاذة؛ فيقرر الناس تجميده في مكان ما للتخلص من طينته الثقيلة. ولأنه بلا أسرة ولا أصدقاء فلا يسأل عنه أحد، أو حتى يأبه لغيابه. وبعد سنوات يقوم أحدهم بإخراجه مصادفة بعد أن أُغلقت المؤسسة التي كانت تحبسه في مكان معزول؛ فخرج على مجتمع جديد، لا يقل بلاهة منه. ولأنهم رأوا فيه بعض علامات النجابة بالنسبة إليهم فقد قرروا حبسه خوفًا من فرط ذكائه، وقاموا بطرح عدد من الأسئلة عليه، لكنه أجاب عنها جميعًا بسرعة فائقة؛ ليقرر الرئيس الأمريكي عندها الاستعانة به في كبرى المعضلات التي تواجه بلده، ولم تفلح محاولاتهم في علاجها، هي عدم نمو الأشجار؛ الأمر الذي أضحى يهدد حياة البشر والمواشي؛ ليكتشف الفتى أنهم لم يكونوا يعلمون أن الزرع ينمو عن طريق سقايته بالماء.
تكمن رمزية هذه القصة الطريفة في قضية خطيرة، تتعلق بضَعْف الذكاء المعرفي المتوقع في المستقبل بسبب الإدمان على منتجات التقنية الإلكترونية، وما تبثه من تأثيرات سلبية على إدراك الناس وتصوراتهم، وما أدت إليه العوالم الافتراضية للفيس بوك وتويتر والسناب شات من عزلة اجتماعية للأفراد، واغتراب روحي عن المجتمع التقليدي الذي يعيشون فيه.
لقد تجاوز تأثير هذا العالم الافتراضي والإفراط في استخدام هذه الأجهزة الذكية! مسألة العزلة والتقوقع إلى بروز ظواهر مَرَضية ونفسية خطيرة، لعل أبرزها ظاهرة (الانتباه المتشظي) التي تعني فقدان الأشخاص قدرتهم على التركيز، وعدم استطاعتهم التفكير في قضية معرفية واحدة؛ فأدى ذلك إلى تسطيح الكثير من القضايا والتداخل بينها، والقفز من فكرة إلى فكرة أخرى بسرعة، دون رابط أو تناسق بينهما.
وعلى الرغم من أن الدعوة إلى عدم استخدام هذه الأجهزة فيه شيء من المبالغة إلا أن قدرة الإنسان على الترشيد والتحكم في دخولها متى ما شاء أفضل في رأيي من جعل هذه الأجهزة تتحكم في سلوكه وأوقاته وتفكيره؛ فيصبح أسيرًا لها. بل إن أبعادها المَرَضية ظهرت حتى في المراهقين كما يحدثني أحد الأصدقاء الذي يدرِّس طلابًا في المرحلة الثانوية؛ إذ لاحظ عليهم أعراض القلق، والتشنج، والضحك الهستيري.
يقول عالم الكمبيوتر كال نيوب، الذي لم يفتح حسابًا في أي من وسائل التواصل الاجتماعي منذ ثورتها قبل ١٥ عامًا، إن هناك ثلاث شبهات تافهة يطلقها الناس عن هذه الوسائل، أولى هذه الشبهات (إن حياتي لن يعرفها أحد، وسأعيش على هامش الحياة). وهذه شبهة داحضة؛ لأن الإنسان الذي يركز في شي ما، ويصل إلى العمق المعرفي منه، هو من سيحتاج إليه الناس. أما الشبهة الثانية فهي (إن التقنيات الموجودة في هذه الهواتف تقنيات أساسية)، لكن الحقيقة تقول إنها تطبيقات مساندة لخدمات حقيقية في الواقع، ومن الممكن أن تقوم حياة الفرد بدونها. أما أبرز هذه الشبهات التي يؤمن بها كثير من الأفراد فهي أنهم يستخدمون هذه التقنيات للتسلية والترفيه، لكنها ستشغلهم وتلتهم أعمارهم؛ لأنها صُممت في الأصل لتكون مدمنًا عليها، وتؤدي بك في النهاية إلى التشتت، وتقلص قدرة الفرد على التركيز. وقد استطاع نيوب هذا نتيجة بُعده عن هذا العالم الافتراضي أن ينتج معرفة جديدة؛ فيؤلف خمسة كتب في تخصصه.
قصارى القول إن هناك تجارب حقيقية ودراسات علمية تتحدث عن تأثير هذه الأجهزة ومنتجاتها التواصلية.