نسمع عن مصطلح المجاعة فيتبادر إلى أذهاننا على الفور مجاعات بعض دول العالم، وكأن الجوع لا يحدث إلا بسبب نقص الطعام.
يا تُرى، هل هناك أسباب أخرى تسبب مجاعات من نوع آخر؟!
تمهَّل عزيزي القارئ، وستجد في نهاية هذه السطور جوابًا يروي فضولك.
نعيش في هذا الكون أفرادًا وجماعات، يربط بيننا علاقات ومشاعر مختلفة، لكل منا شخصية وأهداف مختلفة، نختار مساراتنا في الحياة، فينطلق كل منا في فلكه باحثًا لاهثًا عن معنى السعادة والنجاح. نختلف في طرق السعي وسبل الوصول، ولكن بشريتنا مهما اختلفت لغاتنا وأشكالنا وطموحاتنا تشترك في حاجات نفسية لا مفر منها، تلك الحاجات هي بمنزلة الوقود الذي يجعلك تنطلق في سعيك متوازنًا أو متهالكًا، بثقة أو بتردد، بجموح يفوق الوصف، أو بتمرد لمحاولة إثبات نفسك.
تتنوع تلك الحاجات، ولكل منها وادٍ عميق، وأنفاق تتجذر في قعر شخصية الإنسان، ولا شك أن انخفاض منسوب الإشباع فيها عن الحد الطبيعي سيُنتج شخصيات مهزوزة، ونفسيات غير سوية، ومشاعر مضطربة، تؤخر الإنسان عن الالتحاق بالركب، أو تجعله مكبلاً لا يقوى على الحراك ولا المضي بسلاسة، أو حتى قد تصل لشله تمامًا عن السعي والطموح.. ليس ذلك فحسب، بل إنها قد تجعل منه مجرمًا يفتك بالبشرية ظلمًا وتسلطًا وجنوحًا.
تتنوع الحاجات بين حاجات عاطفية كالحاجة للتقبل، الحاجة للاعتبار، الحاجة للتقدير، الحاجة للأمان، وأخيرًا الحاجة إلى الحب، واللمس تحديدًا الذي يعنينا في هذا المقال.
تحضن الأم طفلها الرضيع بكل تلقائية، وبكل حب وعطف، يكبر قليلاً فتزداد الأحضان، وربما يبادر طفلك بطلبها، وقد يحصل عليها من جميع المحيطين به؛ فهو أهل لذلك الحضن؛ لأنه لطيف وبريء وصغير. تمرُّ السنوات ونجد ذلك الطفل شخصًا بالغًا، تغيرت في ملامحه الكثير، وتضاعف طوله ووزنه، اختلفت أشياء كثيرة، لكن الحاجة للحضن واللمس لا تزال تتربع على عرش القائمة، ولكن الفرق أن عمره الصغير كان جاذبًا وعاملاً مساعدًا لإشباع تلك الحاجة.. ولكن عندما يكبر فإن تلك الفرص تقل، وأحيانًا تتلاشى، بداعي الخجل أو عدم الحاجة، أو خوفًا من التدليل، أو اعتقادًا بزوال أسبابها وأهميتها إذا كانت حاجة معترفًا بها في قاموس الأهل، وموجودة بشكل كافٍ من الأساس.
إن غياب حاجة أساسية كتلك يشوه الخريطة العاطفية للشخص، وكلما بدأ الفقد لذلك اللمس الحنون من والدَيْه ومَن يعيش معهم من عمر مبكر تعاظم الأثر، واختل التوازن أكثر. والمؤسف أن ذلك الخلل يصعب تداركه في الكِبَر؛ لأن العواطف تصحرت، والنفس ألفت الوحدة، وصار الفراغ العاطفي بداخل النفس ينخر في روحها؛ لتغدو هشة قابلة للكسر والانصياع خلف أي تيار عاطفي أيًّا كان مصدره.
ما أود أن أقوله هنا باختصار: غياب اللمس بأنواعه من أحضان وقُبلات، وشح العواطف لأطفالنا وأبنائنا المراهقين والبالغين، هو ظلم لهم، وهو تعدٍّ على سلامة شخصياتهم في الكِبَر، وأول عتبة لدخولهم في متاهات التعب النفسي.
لست أبالغ، ولكني أرى وألمس الفرق في ذوات مرهقة وأخرى مكتفية أمامي؛ والسبب كان يعود للإشباع العاطفي، على رأسه الحضن الدافئ والهادئ الذي يحمل مشاعر التقبُّل والحب لذلك الشخص بغض النظر عن سلوكه الخاطئ أو المستفز. في نهاية الأمر الحب كفيل بمعالجة الكثير من المشاكل، وسد الكثير من الثغرات. هو الدواء، ونقص التعبير عنه هو الداء.
أعزائي البشر، المربين، الوالدَيْن، الأهل، الأصدقاء، والأزواج.. بيدكم دواء شافٍ، لا تقتصدوا في استخدامه، بل أجزلوا بالعطاء لكل من يهمكم أمره، من أخت، أخ ، زوج، ابن، ابنة.. في أي مرحلة عمرية كانت؛ فالحاجة للمس والأحضان والحب لا تنتهي، ولا يكتفي منها الإنسان، بل تتجدد تمامًا مثل الحاجة للطعام، تتجدد في اليوم الواحد مرات عدة.
هي رحمة زرعها الله سبحانه وتعالى فينا، يمكنك استعادتها ومنحها بأي وقت، متى ما حرَّك الوعي عقلك، وحركت المشاعر عواطفك نحو مَن تربطك به علاقة أساسية في حياتك.
جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أتقبِّلون الصبيان؟ فما نقبلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك".
عزيزي الأب..
عزيزتي الأم..
لا تسمحوا للجفاء بأن يخلق حواجز بينكم وبين أقرب الناس لكم، لا تجعلوا الجفاف العاطفي يسمم أطفالكم، ويكتِّف أرواحهم عن المُضي بسلام في هذا العالم.