وجَّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - لأعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى الخطاب الملكي السنوي المفصل للسياستَيْن الداخلية والخارجية للدولة، فيما يأتي نصه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يسرُّنا أن نفتتح أعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى لعام 1444هـ، سائلين المولى -عز وجل- أن يمدنا جميعًا بعونه وتوفيقه.
أيها الإخوة والأخوات..
إن دستور المملكة العربية السعودية كتاب الله تعالى وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يعزز مبدأ الشورى، كما قال تعالى في كتابه الحكيم {وشاورهم في الأمر}، وتتخذ من هذا قولاً فصلاً، وعملاً في سياساتها، وتحقيقًا لمستهدفاتها وبرامجها وقراراتها.. وستظل متمسكة بهذا المبدأ.
هذه الدولة منذ تأسيسها عام 1727م، وتوحيدها على يدَيْ جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، منذ ما يزيد على تسعين عامًا، أرست ركائز السلم والاستقرار وتحقيق العدل، ولا يسعنا إلا أن نحمد الله -عز وجل- على ما أسبغ على بلادنا من نِعَم كثيرة، وما بلغته بين الأمم من مكانة عليا ورفيعة، نفتخر بها جميعًا قيادة وشعبًا.
سجَّل لنا التاريخ الحديث أعظم وأنجح وحدة جمعت الشتات، وأرست الأمن والاستقرار، ووجهت المقاصد إلى بناء دولة عصرية، دستورها كتاب الله تعالى وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، زأساسها المواطن، وعمادها التنمية، وهدفها الازدهار، وصناعة مستقبل أفضل للوطن وأبنائه وبناته.
ولقد شرف الله هذه البلاد بخدمة الحرمين الشريفين، وحرصت منذ تأسيسها على الاضطلاع بواجباتها بكل ما يخدم الإسلام والمسلمين، والعمل على إنجاز المشروعات التي تضمن التيسير والسلامة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمشاعر المقدسة، ومكَّنت في موسم حج العام الماضي مليون حاج من داخل السعودية وخارجها من أداء نسكهم، وأتاحت العمرة لجميع القادمين بأنواع التأشيرات؛ وذلك نتيجة للنجاح الكبير الذي حققته في مواجهة جائحة كورونا، وبذلت في سبيله جُل إمكاناتها وطاقاتها تجسيدًا لدورها الريادي في العالم.
وتماشيًا مع خطط رفع الطاقة الاستيعابية لاستضافة 30 مليون معتمر بحلول عام 2030، تم إطلاق أعمال البنية التحتية والمخطط العام لمشروع "رؤى المدينة" في المنطقة الواقعة شرق المسجد النبوي، والعمل جارٍ على استكمال التوسعة السعودية الثالثة في المسجد الحرام، إضافة إلى العديد من المشروعات التي تهدف إلى الارتقاء بمستوى الخدمات المقدَّمة لضيوف الرحمن. وسنبذل كل ما في وسعنا لمواصلة الجهود ـ بإذن الله ـ من أجل استمرار توفير سبل الراحة والتيسير لقاصدي الحرمين الشريفين وفق أعلى المعايير العالمية.
أيها الإخوة والأخوات..
تشهد دولتكم حراكًا تنمويًّا شاملاً ومستدامًا وهي تسير في المرحلة الثانية من رؤية السعودية 2030، مستهدفة تطوير القطاعات الواعدة والجديدة، ودعم المحتوى المحلي، وتسهيل بيئة الأعمال، وتمكين المواطن، وإشراك القطاع الخاص بشكل أكبر، وزيادة فاعلية التنفيذ لتحقيق المزيد من النجاح والتقدم، وتلبية تطلعات وطموحات وطننا الغالي.. إذ تم إطلاق جملة من الاستراتيجيات الوطنية والبرامج بهدف تعزيز تنمية البنية التحتية في القطاعات الحيوية، والارتقاء بجودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وأيضًا تأسيس صندوق البنية التحتية الذي سيسهم بشكل كبير في دعم مشاريع البنية التحتية في القطاعات الحيوية، كالنقل والمياه والطاقة والصحة والتعليم والاتصالات والبنية الرقمية، بقيمة إجمالية تصل إلى 200 مليار ريال على مدى السنوات العشر المقبلة - بمشيئة الله -. واستراتيجية صندوق التنمية الوطني الهادفة إلى تحفيز مساهمة القطاع الخاص بما يزيد على ثلاثة أضعاف من التأثير التنموي، والإسهام في نمو الناتج المحلي بضخ أكثر من 570 مليار ريال، ومضاعفة حصة الإنتاج المحلي الإجمالي غير النفطي بثلاثة أضعاف؛ ليصل إلى 605 مليارات ريال، إضافة إلى توفير فرص العمل بالسعودية، وذلك ضمن استراتيجية الصندوق بحلول عام 2030.
ويأتي من ذلك ما أُعلِن من استراتيجيات، شملت استراتيجية برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، والاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، واستراتيجية تطوير منطقة عسير بهدف تحويلها إلى وجهة سياحية عالمية طوال العام، وبرنامج تنمية القدرات البشرية، وكذلك التطلعات والأولويات الوطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار للعقدين المقبلين بما يعزز من تنافسية وريادة السعودية عالميًّا، والاستراتيجية الوطنية للاستثمار، وإطلاق بنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة لتعزيز النمو وسد الفجوة التمويلية، والاستراتيجية الوطنية للمياه التي تضمنت تخصيص (105) مليارات ريال لمشروعات مائية لمنظومة البيئة والمياه والزراعة، والاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، والاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي.
الإخوة والأخوات..
إن المشروعات الفريدة التي تتحقق في بلادنا تأتي في ضوء تطوير ما لدينا من مقومات اقتصادية وثقافية. وكما أعلن سمو ولي العهد، إن مشاريعنا ذات طابع سعودي، ومن ذلك (مشروع تطوير العلا، ومشروع بوابة الدرعية، ومشروع القدية، ومشروع أمالا، ومدينة نيوم، ومشروع البحر الأحمر، ومشروع "ذا لاين"، ومشروعات وسط المدينة لعدد من المدن)، إضافة إلى المدن الثقافية والترفيهية.. فهي مشروعات إبداعية غير مكررة، وتصنع في مجملها بصمة تاريخية ثقافية اجتماعية، ومقومات سياحية كبرى في هذا الوطن العزيز، وتقدم خيارات متنوعة وفق مستهدفات الرؤية اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وتسهم في تعزيز وحماية تاريخ التراث السعودي الحضاري؛ لتنعكس على جودة حياة المواطن.
إن النهج التنموي في السعودية يستهدف صنع نهضة شاملة ومستدامة، محورها وهدفها الإنسان الذي سيدير تنمية الحاضر، ويصنع تنمية المستقبل بالمعرفة؛ إذ أصدر العديد من التشريعات والتعديلات على الأنظمة واللوائح التنفيذية، ووفَّرت دولتكم المُمكِّنات التي تعزز الكرامة للمواطن، وتعمل على تحقيق أقصى المنافع له، وتصون حياته، وتحفظ له سبل العيش الكريم، وتهيئة الحماية والرعاية الاجتماعية، ودعم أنظمة التطوير والاستقرار الاجتماعي له.
كما سجلت السعودية مراكز سبَّاقة، وحققت تقدمًا عالميًّا في عدد من المجالات، أبرزها الصادرات غير النفطية، وأعلى نسبة نمو بين جميع اقتصادات العالم، وتسجيل ثاني أفضل أداء من بين 63 دولة، وكذلك في الأمن السيبراني، والسوق المالية، وجودة الأبحاث العلمية ومكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، إضافة إلى المؤشرات المتعلقة بالتعليم والبحث والابتكار، والتنمية البشرية والمراجعة والمحاسبة في الأعمال التجارية.. وهذا يعكس ما توليه الدولة من اهتمام ودعم غير محدودَيْن، وتوفير كل المُمكِّنات، وإكساب تلك القطاعات وغيرها دفعة قوية في طريق الريادة العالمية، ومواصلة تحقيق القفزات النوعية في التنافسية والمؤشرات الدولية.
لقد أسعدنا ما حققه أبناؤنا الطلبة الموهوبون والموهوبات في مسابقة (آيسف 2022) من جوائز، والتقدُّم في 16 مؤشرًا من مؤشرات التنافسية العالمية في مجال التعليم؛ وهو ما يعكس الجهود المبذولة للارتقاء بجودة هذا القطاع بوصفه ركيزة أساسية، تتحقق بها التطلعات نحو التقدم والريادة، بما يواكب أفضل الممارسات العالمية الناجحة، ومستهدفات التنمية الوطنية وبرنامج تنمية القدرات البشرية.
أيها الإخوة والأخوات..
إن من أهم المستهدفات التي توليها الدولة الاهتمام والمتابعة صون الأمن وتعزيزه بمفهومه الشامل؛ لتوفير أسباب الطمأنينة والأمان؛ لينعم به كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة، ولحماية المكتسبات، ومواجهة مختلف التحديات والتهديدات، ومكافحة أشكال الجريمة والإرهاب كافة، إضافة إلى قطاعات الإسكان والصحة والعمل.. ونحرص على دعم الخطط والبرامج التي تسهم بإيجاد الحلول للتحديات أمامها، منها رفع نسبة التملك السكني للأسر السعودية إلى 70% بحلول 2030 بمشيئة الله، وحصول المواطنين والمواطنات على خدمة ورعاية صحية متميزتَيْن عبر منظومة متكاملة، تعين على تحسين مستوى صحة وجودة حياة الأفراد والمجتمع، وكذلك زيادة مشاركة الكوادر الوطنية في سوق العمل السعودي، وفتح مزيد من فرص العمل أمام أبناء وبنات وطننا العزيز.
وقد حظيت المرأة السعودية باهتمام ورعاية لتؤدي دورها في التنمية والبناء والتطوير، من خلال تطوير قدراتها، وبلورة دورها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وصولاً إلى تسنم مراكز قيادية ورفيعة في الجهات الحكومية والخاصة والمنظمات الدولية.
إن عالم الفضاء أولته السعودية قدرًا من اهتمامها؛ لتعزيز دورها في عالم الفضاء وصناعة تقنياته. وخلال هذا العام تم إطلاق برنامج السعودية لرواد الفضاء عبر رؤية السعودية 2030، الذي يهدف لتأهيل كوادر وطنية متمرسة للقيام برحلات فضائية طويلة وقصيرة المدى، كما سيتم إطلاق الاستراتيجية الوطنية للفضاء، التي تشمل برامج الفضاء بالسعودية وأهدافها في خدمة الإنسانية.
لقد جاء انتخاب السعودية عضوًا في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعضوًا في مجلس منظمة الطيران المدني الدولي (الإيكاو)، ليترجم جزءًا من الدور المؤثر للمملكة في المنظمات الدولية، وما تحظى به من تقدير على المستوى العالمي.
أيها الإخوة والأخوات..
تسعى السعودية حثيثًا نحو ضمان مناعة ركائز عالم الطاقة الثلاث مجتمعة، وهي (أمن إمدادات الطاقة الضرورية، والتنمية الاقتصادية المستمرة من خلال توفير مصادر طاقة موثوقة، ومواجهة التغير المناخي)، وتعمل بلادنا جاهدة ضمن استراتيجيتها للطاقة على دعم استقرار وتوازن أسواق النفط العالمية، بوصف البترول عنصرًا مهمًّا في دعم نمو الاقتصاد العالمي؛ ويتجلى ذلك في دورها المحوري في تأسيس واستمرار اتفاق مجموعة (أوبك بلس) نتيجة مبادراتها لتسريع استقرار الأسواق واستدامة إمداداتها، وكذلك حرص السعودية على تنمية واستثمار جميع موارد الطاقة التي تتمتع بها.
لقد جاء اكتشاف عدد من حقول الغاز الطبيعي في بعض مناطق السعودية، منها (حقل شدون في المنطقة الوسطى، وحقلا شهاب والشرفة في الربع الخالي، وحقلا أم خنصر، وسمنة للغاز الطبيعي غير التقليدي في منطقتَي الحدود الشمالية والشرقية)، ليضيف نعمة من نِعَم الله على هذه البلاد، ويعزز المخزون من الثروات والموارد، بما يدعم المكانة الرائدة للمملكة في قطاع الطاقة العالمي، ويسهم في التنوع الاقتصادي والأثر المالي الإيجابي على المدى الطويل -بإذن الله-.
تمضي بلادنا بخطى متسارعة نحو مواجهة التحديات البيئية، وفي مقدمتها التغير المناخي، مستهدفة الحياد الصفري للانبعاثات، وإطلاق وتبنِّي حزمة من المبادرات التي ستسهم -بمشيئة الله- في تقليل الانبعاثات الكربونية بمقدار (278) مليون طن بشكل سنوي، بحلول عام 2030، إضافة إلى الوصول بالطاقة المتجددة لحصة 50% من الطاقة الإنتاجية لمزيج الكهرباء، ومبادرة البرنامج السعودي لكفاءة الطاقة، وبناء واحد من أكبر مراكز العالم في إنتاج الهيدروجين الأخضر في مدينة نيوم، واستثمارات بقيمة 700 مليار ريال للإسهام في تنمية الاقتصاد الأخضر، وإيجاد فرص عمل نوعية واستثمارية للقطاع الخاص. وترسيخًا لدور السعودية الريادي عالميًّا في مجال الاستدامة أطلقت السعودية مبادرتَيْ (السعودية الخضراء)، و(الشرق الأوسط الأخضر)، داعمة بذلك الجهود الوطنية والإقليمية بهذا الشأن، وطرحت مبادرات نوعية لحماية البيئة، وتعزيز التشجير المستدام. وهذا إدراك منها لأهمية التعامل مع تحديات التغيُّر المناخي، وضرورة معالجة آثاره السلبية تحقيقًا لأهداف اتفاقية باريس، من خلال تبنِّي نهج متوازن، وذلك بالانتقال المتدرج والمسؤول نحو نُظم ومصادر طاقة متنوعة وأكثر ديمومة، تأخذ بالاعتبار ظروف وأولويات كل دولة.
أيها الإخوة والأخوات..
إن اهتمامنا بمكافحة الفساد، والمُضي بالتعاون في هذا الشأن على المستويَيْن المحلي والدولي، إدراكٌ تام منا بأن الفساد يُمثِّل العدو الأول للتنمية والازدهار؛ إذ لا يمكن مكافحته دون تعاون دولي وثيق. ونعمل في ذلك ضمن الاتفاقية العربية واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد؛ لدرء مخاطره وآثاره المدمرة، بما يخدم المصالح المشتركة، ويحد من الملاذات الآمنة للفاسدين.
ودعمت السعودية قطاع السياحة، ودعت الدول المانحة لتمويل الصندوق الدولي المخصص لدعم قطاع السياحة؛ كونها محركًا أساسيًّا في دفع عجلة النمو الاقتصادي والثقافي، ودعم المجتمعات؛ إذ حققت السعودية وفقًا لمؤشر تطوير السفر والسياحة (TTDI) الصادر عن منتدى الاقتصاد العالمي إنجازًا جديدًا بتسجيلها المركز الـ33 متقدمة 10 مراكز دفعة واحدة عن عام 2019.
إن تأكيد صندوق النقد الدولي متانة اقتصاد السعودية ووضعها المالي، وإيجابية الآفاق الاقتصادية لها على المديَيْن القريب والمتوسط، إضافة إلى قوة مركزها الاقتصادي الخارجي، ليعكس ذلك جانبًا من جهود الدولة وإصلاحاتها الاقتصادية من خلال رؤية السعودية 2030 نحو تحسين بيئة الأعمال، وتبسيط القواعد التنظيمية، ورقمنة العمليات الحكومية، والعمل على مجموعة واسعة من المشروعات في قطاعات مختلفة.
ومع استمرار الاقتصاد السعودي بتحقيق معدلات نمو مرتفعة، وعلى الرغم من الارتفاعات الكبيرة لمستويات التضخم عالميًّا، استطاعت السعودية - بفضل الله - ثم سياستها النقدية والمالية والاقتصادية الحد من آثار التضخم، وتسجيل معدلات تعد من الأقل عالميًّا، فيما واصل معدل البطالة الانخفاض في الربع الثاني مقارنة مع الربع الأول 2022م؛ ليصل إلى (9.7%)؛ إذ انخفض معدل البطالة للسعوديين الذكور إلى نسبة (4.7%) مقارنة بـ (5.1%)، وللسعوديات إلى نسبة (19.3%) مقارنة بـ (20.2%)، تماشيًا مع خطط الوصول إلى المعدل المستهدف (7%) في 2030 -بمشيئة الله-.
وتعكس التقديرات الإيجابية لوكالات التصنيف الائتماني عن اقتصاد السعودية فاعلية الإصلاحات التي اتخذتها الحكومة في إطار برنامج الاستدامة المالية؛ إذ حققت الجهات الحكومية في هذا الإطار أثرًا ماليًّا، يزيد على 540 مليار ريال خلال السنوات الماضية، وتم توجيهها إلى مصروفات ذات أولوية.
إن مستهدفات الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2023م تأتي استكمالاً لمسيرة العمل على تعزيز وتقوية الموقف المالي للمملكة، والمحافظة على معدلات إيجابية مرتفعة للنمو الاقتصادي، والاستمرار في تمكين القطاع الخاص، وتحفيز البيئة الاستثمارية، وتنفيذ مشروعات وبرامج (رؤية السعودية 2030).
الإخوة والأخوات..
إن مكانة السعودية، ودورها المحوري على الصعيدَيْن السياسي والاقتصادي، وموقعها الاستراتيجي، جعلتها دائمًا في قلب العالم مواكبةً لمستجداته، ومُسهمةً في مواجهة تحدياته، ومستثمرةً لفرصه ومجالاته؛ بما يحقق مصالحها ومصالح أشقائها وأصدقائها، ويخدم الإنسانية جمعاء.
وحرصًا على تعزيز علاقات السعودية مع دول العالم، فقد قام سمو ولي العهد بزيارات رسمية لعدد من الدول الشقيقة والصديقة، كما استقبلت بلادكم زعماء من دول العالم وكبار مسؤوليها، وأثمرت هذه الزيارات توقيع اتفاقيات مهمة، ستسهم - بإذن الله تعالى - في خدمة المصالح المشتركة.
نتطلع لتحقيق المزيد من الارتقاء بالعمل الخليجي المشترك بما يعزز مسيرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية على جميع الأصعدة، ونؤكد أهمية استكمال بناء تكتُّل اقتصادي مزدهر، ومنظومتَيْ الدفاع والأمن المشترك، بما يدفع بدور هذه الدول على المستويَيْن الإقليمي والدولي من خلال توحيد المواقف السياسية، وتطوير الشراكات مع المجتمع الدولي.
وقد عكست قمة جدة للأمن والتنمية، التي عُقدت بمشاركة الولايات المتحدة وقادة تسع دول عربية، التأكيد المشترك على أهمية العمل الجماعي لبناء مستقبل أفضل للمنطقة ودولها وشعوبها، وتكثيف التعاون في إطار مبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي تقوم على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام استقلالها وسلامة أراضيها، واحترام قيم المجتمعات وثقافتها.
وكانت المملكة العربية السعودية ولا تزال وسيطة للسلام، ومنارة للإنسانية للعالم قاطبة؛ لمكانتها الرفيعة بين الأمم، ودورها المحوري في السياسة الدولية، وريادتها في دعم كل ما فيه خير للبشرية. وتبرز في هذا السياق جهود سمو ولي العهد في تبنِّي المبادرات الإنسانية تجاه الأزمة الروسية - الأوكرانية، ونجاح وساطته بالإفراج عن أسرى من جنسيات عدة، ونقلهم من روسيا إلى السعودية، وعودتهم إلى بلدانهم.
وانطلاقًا من دورها الإنساني والريادي، واستشعارًا لمسؤولياتها تجاه المجتمع الدولي، فإن السعودية ملتزمة بمساعدة الدول الأكثر احتياجًا، والدول المتضررة من الكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية. وهي أكبر دولة مانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية على المستويَيْن العربي والإسلامي، وإحدى أكبر ثلاث دول مانحة على المستوى الدولي.
نعمل جنبًا إلى جنب مع شركائنا الدوليين لتخفيف وطأة الآثار السلبية للنزاعات المسلحة وانعكاساتها المؤلمة على الأمن الغذائي، وتعطيلها تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، خاصة هدف القضاء على الجوع. وتؤكد السعودية أهمية السعي لتسهيل تصدير الحبوب والمواد الغذائية؛ لأن استمرار ارتفاع أسعار الغذاء سيدفع الكثير إلى مواجهة خطر المجاعة. ولبلادنا إسهامات كبيرة في هذا الجانب؛ فقد بلغ إجمالي مساعدات السعودية في مجال الأمن الغذائي والزراعي ما يقارب مليارين و890 مليون دولار أمريكي. كما أعلنت السعودية مع أشقائها بالمنطقة تخصيص 10 مليارات دولار لهذا الغرض عبر تنسيق وتوحيد جهود 10 صناديق تنموية وطنية وإقليمية.
وتستشعر السعودية دورها بين دول وشعوب العالم، وتعمل من خلال علاقاتها الثنائية ومن خلال المنظمات والمجموعات الدولية على تعزيز التعاون الدولي لمواجهة التحديات في عالمنا، ودعم العمل الدولي متعدد الأطراف في إطار مبادئ الأمم المتحدة وصولاً إلى عالم أكثر سلمية وعدالة، وتحقيق مستقبل واعد للشعوب والأجيال القادمة. وفي ظل ما يشهده العالم من حروب وصراعات تؤكد السعودية ضرورة العودة لصوت العقل والحكمة، وتفعيل قنوات الحوار والتفاوض والحلول السلمية بما يوقف القتال، ويحمي المدنيين، ويوفر فرص السلام والأمن والنماء للجميع. كما تؤكد موقفها الداعم للجهود الدولية كافة الرامية إلى إيجاد حل سياسي يؤدي إلى إنهاء الأزمة الروسية - الأوكرانية، ووقف العمليات العسكرية؛ بما يحقق حماية الأرواح والممتلكات، ويحفظ الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
إن أمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها يتطلبان الإسراع في إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، وإقامة دولة فلسطين مستقلة على حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية. وتدين السعودية جميع الإجراءات الأحادية التي تقوض حل الدولتين، وتدعو لوقفها الفوري الكامل.
وفي اليمن نأمل أن تؤدي الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة تماشيًا مع مبادرة السعودية لإنهاء الأزمة في اليمن؛ للوصول إلى حل سياسي شامل، وتحقيق السلام المستدام بين الأشقاء في اليمن. ونؤكد حرص السعودية ودعمها لمجلس القيادة الرئاسي اليمني، بما يحقق لليمن وشعبه الشقيق الأمن والاستقرار.. ونُجدِّد موقفنا الراسخ والداعم لكل ما يسهم بوقف إطلاق النار بشكل دائم، وبدء العملية السياسية بين الحكومة اليمنية والحوثيين؛ بما يحفظ لليمن سيادته ووحدته وسلامة أراضيه، وضرورة وقف الانتهاكات الاستفزازية الحوثية المسلحة داخل اليمن.
إن أمن العراق واستقراره ركيزة أساسية لأمن المنطقة واستقرارها، وتؤكد السعودية دعمها لأمنه واستقراره ونمائه ووحدة أراضيه، وهويته العربية ونسيجه الاجتماعي، وتطوير أوجه التعاون ثنائيًّا وجماعيًّا، ومساندته في مواجهة الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة.
ونجدد دعمنا للشعب السوداني الشقيق، ولكل جهد يسهم ويشجع الحوار بين القوى السياسية والأطراف السودانية، والحفاظ على تماسُك الدولة ومؤسساتها، ومساندة السودان في مواجهة التحديات الاقتصادية.
وفيما يتصل بالشأن السوري فإننا نؤكد ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن بما يحفظ سيادة سوريا واستقرارها وعروبتها، ونشدد على أهمية منع تجدُّد العنف، والحفاظ على اتفاقات وقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين السوريين.
وفي لبنان نؤكد ضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة، تقود إلى تجاوُز أزمته، وأهمية بسط سلطة حكومته على جميع الأراضي اللبنانية لضبط أمنه، والتصدي لعمليات تهريب المخدرات والأنشطة الإرهابية التي تنطلق منها مهددة لأمن المنطقة واستقرارها.
كما تدعم السعودية وقف إطلاق النار الكامل في ليبيا، والدعوة الليبية إلى المغادرة التامة للقوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة دون إبطاء، وفقًا لقرار مجلس الأمن 2570 الصادر عام 2021م.
وتؤكد بلادنا ضرورة مواصلة تقديم المساعدات الإنسانية لأفغانستان، والحرص على دعم أمنها، وعدم تحولها إلى منطلق للعمليات الإرهابية أو مقر للإرهابيين.
إن استتباب السلم والأمن الدوليَّيْن لا يتحقق من خلال سباق التسلح أو امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بل من خلال التعاون بين الدول لتحقيق التنمية والتقدم؛ ومن هنا نحثُّ المجتمع الدولي على تكثيف ومضاعفة الجهود في سبيل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وضمان خلو منطقة الشرق الأوسط منها، كما ندعو إيران للوفاء عاجلاً بالتزاماتها النووية، والتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واتخاذ خطوات جدية لبناء الثقة بينها وبين جيرانها والمجتمع الدولي.
وفي الختام، أشكر جميع العاملين في أجهزة الدولة الذين يخدمون وطنهم بكل إخلاص، والمتفانين في إنجاز مستهدفات رؤية السعودية بما يحقق للوطن الرفعة والتقدم، ويدفع به إلى المراتب العليا عالميًّا.
وكذلك الشكر لمنسوبي القطاعات الأمنية والعسكرية كافة، وللجنود الأبطال المرابطين على الحدود، سائلاً المولى -عز وجل- أن يتقبل مَن قضوا في سبيل حماية الوطن ومقدراته ومكتسباته في عداد الشهداء. كما أشكر مجلس الشورى على جهوده، وما يقدمه من أعمال ضمن اختصاصاته، راجيًا من الله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.