"توكيد الخبر" في القرآن.. بلاغة مثبتة للمعنى مقنعة للمنكر

في حلقة "سبق" الرمضانية "19" مع دكتور البلاغة والأدب "زيد الخريصي"
"توكيد الخبر" في القرآن.. بلاغة مثبتة للمعنى مقنعة للمنكر

البحث والتمعُن في الأسرار البلاغية بالقرآن الكريم من أعظم وأشرف ما يقوم به المسلم لمعرفة شؤون حياته، وترشده إلى معرفة الإعجاز القرآني الذي تحدّى بفصاحة ألفاظه، وبلاعة أساليبه، ودقة نظمه فصحاء اللغة وأربابها.

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "التاسعة عشرة" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "توكيد الخبر" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

قال "المتخصص": ينقسم الكلام في العربية، قسمين: خبر وإنشاء، أولاً: الخبر، ثانياً: الإنشاء، والخبر هو: الكلام الذي يحتمل الصدق أو الكذب لذاته، والإنشاء: ما لا يحتمل الصدق أو الكذب، وللخبر غرضان رئيسان: فائدة الخبر، ولازم الفائدة، وله أغراض فرعية تستنبط من السياق، وله مؤكدات، منها: إنَّ، وأنَّ، والقسم، ولام الابتداء، ونونا التّوكيد، وله أضرب ثلاثة.

أضرب الخبر

وأضاف "الخريصي": قسم البلاغيون الخبر إلى ثلاثة أضرب، والضرب هو: النوع، النوع الأول: الخبر الابتدائي، وهو: الخبر الذي يأتي دون من أدوات التوكيد، ويكون المُخاطب خالي الذهن في هذه الحالة، نحو: خالد طالب مجتهد، فهذه الجملة موجّهة إلى شخص خالي الذهن، بمعنى أنّه مما لا شك فيه أن خالداً من المجتهدين، ولأنّ الجملة خلت من أدوات التوكيد يعدّ الخبر هنا ابتدائياً.

وواصل: النوع الثاني: الخبر الطلبي، وهو: الخبر الذي يؤكّد بأداة واحدة من أدوات التوكيد، ويُلقى على المتلقي الذي يشك في الأمر، نحو: إن خالداً مجتهدٌ، فهذه الجملة موجّهة إلى شخص شاك في قبول الخبر، بمعنى أنّه شاكٌ في أن خالداً من المجتهدين، لذا وجب أن نؤكد الخبر بأداة التوكيد (إنَّ)، لذا فإنّ هذا الخبر يُعدّ خبراً طلبياً. وأما النوع الثالث: الخبر الإنكاري، وهو: الخبر الذي يُؤكّد بأكثر من أداة توكيد، ويُلقى على المخاطب المُنكر، وبحسب درجة الإنكار تزيد المؤكّدات، نحو: والله إن خالداً لمجتهد، فهذه الجملة موجّهة إلى شخص منكر في قبول الخبر، لذا وجب أن نؤكد الخبر بأكثر من أداة من أدوات التوكيد، حيث وردت ثلاثة مؤكّدات: القسم (واللهِ)، و(إنَّ)، (اللام)، وأُلقيت الجملة على مُخاطب مُنكِر، لذا فإنّ هذا الخبر يعدّ خبراً إنكارياً.

خروج الكلام عن مقتضى الظاهر

وأتبع "الخريصي" حديثه: هذه الأنواع الثلاثة ما جاء على مقتضى الظاهر، ولكن يمكن أن يخرج الكلام عن مقتضى الظاهر؛ فيخاطب خالي الذهن بمؤكدات، ويخلو خطاب المنكر أو المتردد من المؤكدات؛ لأغراض يطلبها السياق.

إنزال خالي الذهن منزلة المنكر

ومن شواهده، قال الدكتور "الخريصي": منها ما جاء في قول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} "المؤمنون:15"، حيث أكدت الآية وقوع الموت، والموت حقيقة ليست بحاجة إلى مؤكدات؛ لامتناع إنكارها عند المخاطب، والسّر في وجود هذه المؤكدات، يقول الأستاذ الدكتور "عويض العطوي": "نحن نعلم أن الموت لا ينكره أحد ولا يشك فيه، فكيف إذاً يؤكّد الكلام بـ(إن واللام واسمية الجملة)؟ الجواب عن ذلك: أن المخاطب (غير المنكر) نُزِّل في هذه الآية (منزلة المنكر) فعومل معاملته فأُكد له الكلام، والسؤال هنا: لماذا كان ذلك؟ الجواب: لأن المراد هو إيقاظ الناس من غفلتهم؛ لأنهم وإن كانوا لا ينكرون الموت بأقوالهم إلا أن حالهم وتعاملهم، وطول أملهم وفشو الظلم بينهم، يدل على أنهم لا يتذكرون الموت، ولا يشعرون به، فكأنهم بهذا ينكرون وقوعه، لذا حَسُن أن يكون الكلام الموجه إليهم مؤكداً بمؤكدات عدة".

إنزال المنكر منزلة خالي الذهن

وأتبع "دكتور البلاغة والنقد": ومن شواهده ما جاء في قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} "البقرة: 163"، جاء هذا الخطاب موجهاً للمشركين، وهم منكرون لوجود الله، وكان مقتضى الظاهر أن تشتمل هذه الآية على حشدٍ من المؤكدات؛ لبطلان هذا الإنكار وهذا الزعم، إلا أن الآية خرجت عن مقتضى الظاهر؛ وجاءت دون مؤكدات، والنكتة في ذلك، يقول الأستاذ الدكتور "عويض العطوي": "لما كانت كل الدلائل تشير إلى وحدانية الله، وأنه سبحانه واحد كان عدم التوكيد هنا أولى؛ للتدليل بأن ما تنكرونه أظهر من أن يؤكد له الكلام، فقام تظافر الأدلة مقام التوكيد".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org