وفق خطة موضوعة بدقة، وآجال محددة، تمضي السعودية في طريقها نحو توطين صناعاتها العسكرية، وتطوير منظومتها الدفاعية لامتلاك القدرة على توفير احتياجاتها من معدات عسكرية حديثة، يتم تصنيعها بأيدٍ سعودية داخل البلاد؛ وذلك لتحقيق عدد من الأهداف، في مقدمتها تعزيز قدراتها العسكرية والصناعية، واستقلالية قرارها الاستراتيجي، وتجنُّب الوقوع تحت عواقب التغيُّر في المواقف السياسية الدولية؛ إذ اعتادت معظم الدول الكبرى التي تسيطر على تجارة السلاح في العالم ممارسة نوع من الضغوط على الدول الأخرى، ووقف تصدير الأسلحة إليها؛ وذلك بهدف إملاء شروط سياسية واقتصادية معيَّنة، بل إن بعض الدول تتخذ من تصدير الأسلحة نوعًا من العقوبات التي تفرضها على كل دولة تحاول الاستقلال بقرارها، والابتعاد به عن المساومات ومحاولات الابتزاز.
من الأهداف الأخرى التي تسعى السعودية لتحقيقها من توطين صناعة الأسلحة في الداخل إنتاج فائض للتصدير، يُتوقَّع -حسب الخطط- أن يسهم في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 14 مليار ريال، وتوطين التقنية، وإيجاد ما لا يقل عن 100 ألف من الفرص الوظيفية المتميزة لشباب وفتيات الوطن، وفق ما جاءت به رؤية السعودية 2030 التي كان من أوائل مخرجاتها إنشاء الهيئة العامة للصناعات العسكرية التي تأسست في 2017، واستطاعت بنهاية العام الماضي، وخلال ثلاث سنوات فقط من تأسيسها، رفع نسبة توطين صناعة الأسلحة من 2 % إلى 8 %، وتعمل جاهدة لبلوغ نسبة 50 % في عام 2030.
وشهدت مشاركة السعودية في معرض معدات الدفاع والأمن الدولي (DSEI) الذي أُقيم في العاصمة البريطانية لندن خلال الفترة من 14 – 17 سبتمبر الماضي عرضًا للعديد من المنتجات التي تم تصنيعها في السعودية، مثل المعدات الثقيلة والذخائر من العيارَيْن الثقيل والخفيف، والقنابل اليدوية وذخائر الدبابات، وأنظمة التسليح عن بُعد، وأنظمة راجمات الصواريخ والأنظمة المضادة للطائرات، وغيرها؛ وهو ما يشير بوضوح إلى أن الهيئة وُلدت عملاقة. كما شهد المعرض حضورًا كبيرًا من المستثمرين الدوليين في قطاع الصناعات العسكرية الدفاعية والأمنية، ولاسيما أن الجناح السعودي حمل شعار "استثمر في السعودية"، بمشاركة فاعلة من وزارة الاستثمار.
ومن المنتجات المحلية التي نالت إعجاب المشاركين في المعرض مدرعة (الدهناء) التي تم إنتاجها بأيدٍ سعودية؛ إذ تمت صناعتها بما يتوافق مع طبيعة السعودية وتضاريسها. كما تم تدشين أول زورق اعتراضي سريع من نوع (HIS32) ، الذي تم إنتاجه بالتعاون مع شركة MCN الفرنسية، إضافة إلى العمل على توطين أنظمة قتال السفن الإسبانية (Avante-2200)، والبدء في بناء قدرات لصناعة الطائرات المسيَّرة.
كثيرون كانوا يتساءلون في الماضي عن السبب في عدم وجود صناعات عسكرية متطورة في السعودية، التي جاء ترتيبها الرابع عالميًّا عام 2014 من حيث الإنفاق العسكري، والثالث عام 2015، لكن عند إقرار رؤية السعودية 2030 تم التركيز على تطوير هذه الصناعة؛ ليشهد هذا القطاع نشاطًا واسعًا وحراكًا متسارعًا لدعم وتمكين المصنعين المحليين، وتطوير الشركات المحلية الواعدة؛ لتكون رائدة في مجالها، ودعم الشركات الوطنية الكبرى لتعزيز موقعها عالميًّا، مع فتح المجال للشركات المستثمرة من الخارج.
والسعودية، وإن كانت قد بدأت السير في طريق التصنيع العسكري مؤخرًا، فإنها قطعت خلال السنوات القليلة الماضية خطوات واسعة لاستدراك ما فاتها، ووضعت خطة عملية مُحكمة لتنفيذ أهدافها، تقوم على تشجيع البحث العلمي الذي هو أساس تحقيق أي نهضة وازدهار؛ لذلك تم رصد 10 مليارات ريال لأعمال البحث والتطوير، وأُقرت زيادة الإنفاق على هذا الجانب من 2 % إلى 4 % خلال السنوات العشر المقبلة، إضافة إلى 10 مليارات أخرى للإنفاق على الصناعات العسكرية. كما كشف محافظ الهيئة العامة للصناعات العسكرية أحمد بن عبدالعزيز العوهلي عن أن وجود خطة لاستثمار أكثر من 20 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة.
ولتبادل الخبرات والمعارف مع الدول المتطورة في الصناعات العسكرية، وتوطين التقنية الحديثة، تخطط السعودية لإقامة "معرض الدفاع العالمي" خلال الفترة من 6 – 9 مارس 2022 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وهو فعالية عالمية رائدة في مجالات الأمن والدفاع، وسيُعقد لأول مرة في السعودية؛ ليمثل إضافة نوعية ودفعة قوية لإنجاز الأهداف المنشودة.
لذلك فإن الوصفة السعودية لتطوير المنظومة العسكرية، التي تحتوي على الأسلوب العلمي والعملي، والسخاء الكبير، والتنظيم الدقيق، والمنهجية الواضحة، سوف تؤدي حتمًا لتحقيق النجاح؛ لنشهد بلادنا خلال السنوات المقبلة وهي تتبوأ المكانة اللائقة بها في مجال الصناعات العسكرية، وتتحول من إحدى كبرى الدول المستوردة إلى دولة رائدة على الصعيدَيْن الإقليمي والعالمي في التصنيع والتصدير، ما دامت الإرادة وعناصر النجاح والتفوق قد توافرت.