نص الأمر الملكي الكريم على أنه ينبغي على جميع الجهات الحكومية التقيُّد عند رغبتها في التعاقد للحصول على خدمات استشارية بأن يكون إبرامها العقود المتعلقة بتقديم هذه الخدمات مقتصرًا على ذوي الخبرة من السعوديين، والمكاتب الاستشارية، والشركات الوطنية. وهذا الأمر السامي لم يأتِ من فراغ؛ فقد استند إلى كتاب رئيس هيئة الرقابة والتحقيق بخصوص العقود التي تبرمها الجهات الحكومية للحصول على الخدمات الاستشارية، وما أوضحته الأمانة العامة لمجلس الوزراء من توصيات لجنة الخبراء التي درست هذا الموضوع، بمشاركة الجهات ذات العلاقة. ولولا وجود تجاوزات وقلة استفادة بمبالغ طائلة لما صدر هذا الأمر السامي. كما يدل دلالة واضحة على حرص الدولة على تمكين الخبرات الوطنية المؤهلة في الاستشارات والدراسات والتطوير التي تسعى لها مؤسسات الدولة. فمنذ بداية خطة التنمية الأولى ومعظم الوزارات والهيئات تبرم العقود الاستشارية مع المراكز الاستشارية الأجنبية والهيئات الدولية التي حصلت على مئات الملايين من الدولارات دون أن يكون لها مردود يتناسب مع تلك العقود إلا ما ندر. وللأسف، فإن عقدة الأجنبي في المجتمع السعودي أصبحت في تزايد حتى وصل الأمر إلى استخدام المستشارين الأجانب من قِبل بعض المسؤولين في الوزارات كنوع من الوجاهة والسمعة. وقد يرى البعض أن مجرد وجودهم في تلك الوزارات والهيئات نوع من التقدم والتطوير في العمل. وقد حضرتُ عرضًا لجهة استشارية أجنبية للحصول على عقد بعشرات الملايين من جهة حكومية، وكان حضوري بطلب من الجهة الحكومية لتقييم العرض المقدَّم من الجهة الاستشارية، وقد اتضح من العرض أنه مجرد معلومات مليئة بالأخطاء العلمية، وفيه كثير من الغموض والخطوات غير المحددة، ولا يتناسب مع طبيعة عمليات التطوير المنشودة بالدرجة المطلوبة، إضافة إلى أن قيمة العرض مبالغ فيها بأكثر من عشرين ضعفًا؛ فلم يتم التعاقد مع الجهة الاستشارية الأجنبية بناء على التقرير الذي تم تقديمه للجهة الحكومية بأن العرض لا يرقى للمستوى المأمول، إضافة إلى أن قيمته مبالَغ فيها. هذا مثال واحد، ولكن ليس كل الجهات الحكومية تكلف أحد المستشارين الوطنيين بتقييم عروض الجهات الاستشارية الأجنبية.
إن تنامي التعاقد مع المستشارين الأجانب، وسهولة حصولهم على العقود، يدل دلالة واضحة على أن بعض المسؤولين في مختلف الوزارات والمصالح الحكومية لا يعرفون أهمية الخبرات الوطنية، وقدراتها في العطاء والتطوير، أو أنهم يقللون من هذه الخبرات. فتوجد خبرات سعودية، تلقت تعليمها في الخارج، ولم يتم الاستفادة منها مع أنهم أكثر خبرة من المستشارين الأجانب؛ لأنهم تعلموا في جامعات عالمية، ولديهم خبرات محلية، وإحساس وطني، لا يتوافر في الخبير الأجنبي.
فقد استثمرت المملكة العربية السعودية في الموارد البشرية للدراسة في الخارج أكثر من أي دولة عربية منذ الستينيات من القرن الماضي حتى الآن.. ولكن –للأسف- لم تستفد الوزارات ومؤسسات التعليم العام والعالي من تلك الخبرات بالمستوى المطلوب. ولو تم نبذ الأنانية، ومحاسبة المسؤولين في الجهات الحكومية، وتمت الاستفادة من الخبرات الوطنية عالية المستوى، لحدثت تطورات هائلة في التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية والتقنية والصناعات المختلفة، قد تضاهي التقدم الذي وصلت إليه دول شرق آسيا.
وإذا كان أحد المسؤولين يرى أن الاستشارات الأجنبية قدمت خدمات تطويرية في وزارته فهل قام هذا المسؤول بتوطين هذه الخبرة؟ فهذه الجهة الاستشارية رحلت بعدما قبضت من أموال، فأين الخبرة التي بقيت بعد رحيلها؟ فلو كان هناك إحساس وطني لتم اشتراط مشاركة بعض المؤهلين السعوديين للعمل مع الشركات الاستشارية الأجنبية كجزء من العقد المبرم مع تلك الشركات لاكتساب بعض الخبرات منهم؛ حتى يمكن توطين تلك الخبرات الأجنبية في السعودية عندما تنتهي مدة تعاقدهم ويرحلون لبلادهم، ولكن ذلك لم يحصل في غالبية العقود المبرمة مع الشركات الاستشارية الأجنبية؛ وبذلك لم يتم توطين هذه الخبرات في المجتمع السعودي.
وبالرغم من أهمية الاستفادة من الخبرات الأجنبية في بعض النواحي النادرة إلا أن مجال التخطيط ووضع الاستراتيجيات في الجوانب التعليمية والاجتماعية لا يمكن مطلقًا القيام به من قِبل مستشارين أجانب إلا لمن تعايش في البيئة السعودية سنوات طويلة.
لقد اعتقدت بعض الدول النامية أن التقدم يكمن في الاعتماد على الخبرات الأجنبية، ولم تنجح تلك الدول في تحقيق أهدافها، وخصوصًا في المجالات التربوية والاجتماعية؛ وذلك لوجود فَرق شاسع بين البيئة المحلية والأجنبية من حيث العادات والتقاليد والقيم ونظام التعليم. ومع استمرار التعاقد مع المستشارين الأجانب والهيئات الدولية في بعض الدول النامية إلا أن تلك الدول ازدادت تخلفًا وفقرًا.
فقد أشار رئيس وزراء ماليزيا محمد مهاتير إلى أن "الدول التي اتبعت سياسة البنك الدولي وصندوق النقد تداعت أوضاعها بشدة؛ لذلك كان علينا أن نجد الحلول من داخلنا، وبدأنا في ماليزيا -على سبيل المثال- بإصلاح البنية الخدمية والتشريعية؛ فاستقام الاقتصاد لدينا".. كما أشار إلى أن "ماليزيا لو اتبعت البنك الدولي وصندوق النقد في عصر ما بعد الاستقلال لازدادت ماليزيا فقرًا وفشلاً، ولأفلست؛ لأن البنك والصندوق من خلال قروضهما لا يسعيان إلا لجني الأرباح، ولا يهتمان كثيرًا بالمواطنين..".
وإضافة إلى الخبرات السعودية التي تلقت تعليمها في الخارج فإنه توجد خبرات وطنية مارست العمل في الميدان التربوي ومجالات أخرى، وحصلت على مؤهلات عالية في الدراسات العليا من الجامعات السعودية القديمة، ولكن -للأسف- لم تستفد منهم وزارة التعليم والجهات الحكومية والأهلية بعد حصولهم على الدكتوراه بالمستوى المطلوب. ومن هؤلاء رجال ونساء، بعضهم ممن درَّستهم، وأشرفت على رسائلهم، فرجعوا إلى أعمالهم السابقة دون نقلهم إلى وظائف يمكن الاستفادة من خبراتهم فيها في مجالات التطوير التي تسعى إليها الوزارة. وبالرغم من حصولهم على الدكتوراه في مواضيع مميزة إلا أن بعضهم رجع لعمله مدرسًا في مدرسة ابتدائية، أو عمله الذي لا يتناسب مع مؤهلاته الجديدة للمساهمة في عمليات التطوير. فمثلاً من السهل تعيين مدرس، ولكن من الصعب الحصول على الخبرات العالية في مجال التجديد والتطوير التي تنشدها وزارة التعليم.
وليس الغرض من ذلك أن كل من يحصل على الدكتوراه يجب نقله إلى وظيفة أخرى، وخصوصًا إذا كان مؤهله الأخير في مجال عمله، أو أن خبراته يمكن الاستفادة منها في تطوير عمله الحالي، ولكن الهدف الأساسي الاستفادة من هذه الخبرات المؤهلة في مجالات تحتاج إليها طبيعة التطوير في الوزارة.
ومن الناحية العملية أرى أن تقوم وزارة التعليم بإيجاد مكتب يحصر الاحتياجات من الخبرات من ذوي المؤهلات العالية من الإيفاد الداخلي والابتعاث الخارجي، وينسق مع الخريجين لوضع ذوي المؤهلات العالية في الأعمال التي تحتاج إليها الوزارة. كما أرى أن تستفيد الوزارة من أبحاث رسائل الماجستير والدكتوراه، ووضعها في قاعدة معلومات؛ لأن أغلب موضوعات الرسائل تتعلق بتطوير التعليم؛ فهي أبحاث جاهزة للوزارة (وبدون تكاليف)، ويمكن الاستفادة من نتائجها.
وفي الوقت الذي تشدد فيه الجهات السامية على الخبرات الوطنية فإن الجامعات السعودية لا تستفيد من تلك الخبرات، بل إن بعض الجامعات تسعى للتخلص منهم من خلال تقليص الاستعانة بالمتعاقدين السعوديين، بالرغم من تميُّز بعضهم. والمفترض أن تكون الجامعات أول من يستفيد من تلك الخبرات، ليس فقط في التدريس، ولكن في البحوث العلمية والاستشارية والأعمال التطويرية للجامعة التي هي من أساسيات أهداف الجامعة؛ فالخبرات الوطنية ممن أمضوا سنوات في الجامعة لا يمكن إحلالهم بموظفين جدد، ولا بمتعاقدين من الخارج لقلة خبراتهم.
وتعزيزًا لاهتمام الدولة بالخبرات الوطنية فإنه توجد أعداد كبيرة من خريجي وخريجات الدكتوراه من الجامعات القديمة يمكن نقلهم إلى وظائف قيادية، أو إحلالهم محل المتعاقدين من الخارج في مختلف الجامعات، وخصوصًا الجامعات الناشئة التي يكثر فيها التعاقد من الخارج.
إن التحديات التي تواجه السعودية من الخارج كبيرة؛ لذا يجب مواجهتها من خلال العمل الوطني في تطوير المؤسسات التعليمية والجهات الحكومية على مختلف مستوياتها؛ فالتطوير لا يمكن شراؤه من مستشارين أجانب من خارج الوطن، أو من هيئات دولية، ولكن من داخلنا. فبوعي وإحساس وطني، وبتكاتف الجميع، وتنفيذًا للأمر السامي، فإنه يجب الاستفادة من الكوادر الوطنية المؤهلة في السعودية في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة. فهم -بعد الله- الملاذ الوحيد في التغلب على التحديات الحالية والمستقبلية.
وعندما تتحول الوزارات والجهات الحكومية والجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى إلى بيوت من زجاج، يستطيع أي مواطن رؤية ما بداخلها بدون وجود أركان مظلمة فيها، فإننا -بمشيئة الله- سوف نتغلب على جميع العقبات التي تواجهنا.