خطيب الحرم المكي: العجلة المذمومة إشكالية كبرى في مسيرة الإنسان

حذّر منها ووصفها بـ"آفة العقول والألباب" وتورث فساد الرأي والتدبير
خطيب الحرم المكي: العجلة المذمومة إشكالية كبرى في مسيرة الإنسان
تم النشر في

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور خالد بن علي الغامدي المسلمين بتقوى الله ومراقبته في السر والعلانية .

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: لقد خلق الله الإنسان على هيئة عجيبة، وجعل فيه من الصفات المتقابلة ما يحير العقل، وفطره على بعض السجايا التي لو بقيت فيه كما هي بدون إصلاح وتهذيب لخسر خسراناً مبيناً، كصفة الجهل والظلم والجحود وحب المال والهلع والجزع، بيد أن صفة العجلة هي أساس الخيبات وأم الندامات، وهي فطرة مؤثرة جداً في شخصية الإنسان تؤدي به إلى عواقب لا تحمد، ونتائج لا تسعٍد إلا أن يتدارك نفسه برحمة الله "خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ".

وأضاف: الاستعجال في حقيقته هو جلب الشيء بسرعة قبل اكتمال أدواته، وطلبه قبل إبانه، وفعله قبل أوانه، بلا روية ونظر، ولا تأنٍ وفكر، فيأتي الفعل باهتاً فجاً، خالياً من ثماره الناضجة، فيكون الرجل قد أساء من حيث أراد الإحسان، وفشل وهو يريد النجاح وخسر وهو يطمح في الربح "وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ".

وأردف: العجلة لم تأت في القرآن والسنة إلا على وجه الذم والنهي واللوم إلا في مواضع يسيرة جاءت ممدوحة، وفي مواضع أخرى جاءت بمرادفاتها من المسارعة والمسابقة والمبادرة، ولذلك حذرت الشريعة من الاستعجال لأنه في غالبه حركة نفسية عجلة غير مدروسة، وخالية من تقدير العواقب، ومن استحضار الظروف والملابسات وأخذ الأهمية والاستعداد.

وتابع: يكفي أن نعلم أن الاستعجال إذا أصبح هو الحاكم على شخصية الإنسان أورثه ذلك الطيش والتهور والسفاهة والحمق واتباع الهوى والعناد والغرور والاستخفاف، وحُق للاستعجال أن يكون جُمًاع الآفات الإنسانية، وبؤرةَ شر الخصال.

وقال خطيب الحرم المكي: لقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن العجلة في تلقي القرآن قبل كماله وانقضاء إيحائه "وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ" وعاتب سبحانه موسى عليه السلام على أن قدم إليه وحده لميقات ربه ولم يأت مع قومه "وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى" ولو صبر موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام ولم يعجل لرأى من بديع أقدار الله شيئاً عجباً، ونهى الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكون مثل يونس عليه السلام حينما خرج مغاضباً قومه مستعجلاً أمر ربه "وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ" وحكم داود عليه السلام لأحد الرجلين اللذين تسورا على المحراب بعد أن سمع من أحدهما فقضى قبل سماع حجة الخصم الآخر، وشعر داود أنه استعجل وظن إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب.

وأضاف: هذه هي الفتنة التي ابتلي بها داود عليه السلام وهي الحكم لأحد الخصمين قبل سماع حجة الآخر وليست كما تزعم الروايات الإسرائيلية أنها فتنة النظر إلى المرأة الحسناء والسعي لأخذها من زوجها، فهذا أمر من الخيانة شنيع يـنـزه عن أنبياء الله ورسله، واستبطأ الصحابة النصر والتمكين في الأرض، وهم يرون علو الكفر وطول زمنه فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سيتم هذا الأمر ولكنكم تستعجلون، وتعجل الرماة النصر في معركة أحد وخالفوا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام فحقت عليهم سنة الله في المتعجلين النصر والتمكين بغير.

وأردف "الغامدي": العجلة المذمومة إشكالية كبرى في مسيرة الإنسان في هذه الحياة وعائق كبير من عوائق النجاح ومزلة قدم تجلب المعاناة وسقوط القمم، متسائلاً كم خرَّب الاستعجال من خطط منظمة؟!، وكم أفسد من أعمال كبار وضيع فرصاً لا يعوض مثلها؟!، وكم ندَّم الإنسان وأوقعه في الحرج، وحرمه من خير وكمال كان قريباً مناله ولو تأنى لظفر به؟!.

وتابع: أكثر ما يغيظ الصدور ويورث الضغينة ويحيل الحبيب إلى بغيض، ويهدم العلاقات الأسرية والزوجية، قارصة عجولة من قوارص الكلام أو تصرف أرعن، أو سرعة قرار في زفرة غضب أو نشوة فرح، أو هوج فعل لم يخطم بتمهل وروية ولم يزم بأناه وبصيرة.

وقال "الغامدي": الاستعجال يحرم العبد من إجابة الله لدعائه فالله يستجيب لعبده ما لم يستعجل الإجابة، حيث تبطل العجلة صلاة العبد، كما دل عليه حديث المسيء لصلاته الذي يسابق إمامه في الركوع والسجود لا يؤمن عليه أن يحول الله صورته إلى صورة حمار، وقد يستعجل المرء في الحكم على الأشخاص بكفر أو بدعه أو فسق أو صلاح وتقوى وعلم، أو ينتقص من أعمال وجهود ويذمها بادي الرأي فيكون ممن خبط في عماية وهوى في جهالة، وظلم ولم ينصف وبخس الناس أشياءهم، وتعجل في كره وذم.

وأضاف: العجلة شؤم، ونذير وهن وما كان العجول محموداً في قبيل ولا دبير، فهي تعمي البصيرة وتسد على العبد موارد التوفيق والتسديد، وقد يصاب المرء بداء العجلة في طلبه للعلم فيستعجل التصدر والوصول ويقفز فوق المراحل ليستجلب المفاخر ولا يصبر على ذل التعلم وثني الركب فيحرم بركة العلم ويكون من نتائج ذلك فتوى عجلة غير محررة وفهم أعوج للنصوص، واستدلالات خاطئة.

وأردف: من أشنع مهالك الاستعجال أن يستبطئ العبد نصر الله للأمه وتمكينه لدينه فييأس من روح الله ويقنط من رحمته ويضعف أمام الباطل ويتنازل عن مبادئه وثوابته ويستعجل مراحل النصر التي لا يمكن أن تتم في عشية وضحاها وهي محكومة بسنن كونية وشرعية لا تتبدل ولا تتغير، أو يستبطئ رزق الله فيستعجله بما حرم الله من شهوات البطون والفروج، وكم من أناس سقطوا في الفتنة وحرموا من الإنصاف بصفات الكمال من العفة والورع والأمانة والصدق بسبب استعجالهم الخوض فيما حرم الله ولم يكبحوا نهمة أنفسهم فتعجلوا سخط الله عليهم .

وتابع: العجلة من الشيطان لأن الشيطان خلق من نار، والنار من صفاتها الطيش والخفة والإحراق، وهذه صفات لها تعلق ظاهر بثمار العجلة المذمومة، فالعجول أموره مديرة وبضاعته كاسدة يندفع بلا عقل ولا روية، وكلما لاح له طمع بادر إليه مما قد يورطه ذلك في الولوغ في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم أو تكفير المسلمين واتهامهم في نياتهم، فأنى يوفق هذا العجول المتكايس" وكيف يسدد هذا المستعجل المتحامق؟ لا تعجلن فليس الرزق بالعجل" الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل" فلو صبرنا لكان الرزق يطلبنا لكنما خلق الإنسان من عجل.

وقال "الغامدي": العجلة آفة العقول والألباب، وهي تورث فساد الرأي والتدبير والنهي، وقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال، فقال ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)) وأخبر سبحانه أن أقواماً يستعجلون العذاب والسيئة قبل الحسنة، وهذا من ضعف عقولهم لو كانوا يعقلون، مشيراً إلى أن الاستعجال آفة مهلكة إذا لم يبادر العبد إلى إصلاحها وتهذيبها، وذلك لا يتم له إلا بأمور مهمة، منها تعويد النفس وتمرينها على التأني والروية والتمهل والتعقل قبل أن يصدر منها أي قول أو فعل أو رأي، والتأني والتروي قيمة مطلقة يحبها الله ويوفق صاحبها للسداد والبصيرة والله من أسمائه الحليم والصبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)).

وأضاف: يكون خلق التأني والتؤدة والرزانة، هبةٌ ومنةٌ من الله على عبده، كما يدل عليه حديث أشج عبدالقيس حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة)).

وأردف: يمكن اكتساب خلق التأني بمطالعة عبر التاريخ وتجارب الأمم والقراءة في سير العقلاء والنبلاء والجلوس مع أهل العلم والخبرة والتجربة ومشاورتهم، مع تدريب النفس وتعويدها على التأني، فهذه وسائل مهمة في تهذيب العجلة وإصلاحها، وقد شرع الله الاستخارة والاستشارة من أجل اتقاء شر الاستعجال في اتخاذ القرارات هينة كانت أم عظيمة ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي الموحى إليه، وقد كان عمر رضي الله عنه يجمع المهاجرين والأنصار لمشاورتهم في كثير من قراراته وهو المحدث الملهم .

وتابع: العجلة فطرة مركوزة في شخصية الإنسان لا يكاد ينجو من شرها أحد إلا إذا هذبها وأصلحها بأن يصرفها في وجهها الصحيح ويعدل مسارها فيما ينفع ويفيد قال صلى الله عليه وسلم: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) حيث جاءت الشريعة بطلب الاستعجال في أمور من الخير وعمل الآخرة لا ينبغي التأني فيها وتأخيرها، فقد أمرت بالاستعجال في رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منها قبل يوم القيامة، سواء كانت ديوناً، أو ميراثاً أو عارية أو وديعة أو استيفاء لبيع وشراء، ولا يجوز للمسلم أن يحبس حقوق الناس عنده فإن ذلك من الظلم والبغي والموفق هو الذي يستعجل في أداء فريضة الحج إذا كان مستطيعاً ولم يحج من قبل قال صلى الله عليه وسلم: (تعجلو إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).

وقال "الغامدي": الصائم شرع له تعجيل الفطر ولا يزال الناس بخير ما عجلو الفطر، وشرع للعبد المسارعة والمبادرة والمسابقة في عمل الخيرات، ولم يكن هناك أحد من الصحابة أسبق لكل خير من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والمؤمن العاقل يبادر بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، ولا تطيب نفسه أن يسبقه أحد الى الله، وشعاره دائما [وعجلت إليك ربي لترضى].

وقال: "إن من أوجب الأعمال التي لا تقبل التأخير والتسويف المبادرة والمسارعة إلى التوبة والاستغفار من كل ذنب وفي كل وقت، والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، والعبد لا يدري متى يفجؤه الموت فلا يُمكن من التوبة، ومن العجلة المحمودة الإسراع بالميت في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، والإسراع في إكرام الضيف وإطعامه (فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)، وكذلك المسارعة في تزويج الفتاة من الكفء المناسب، فإن الإسراع في ذلك من الخير المحمود، وتأخير الزواج مصيدة من مصائد إبليس إلا من عذر قاهر، وبكل حال فالمشروع هو المبادرة والمسارعة والاستعجال في كل أعمال الآخرة التي تقرب إلى الله والهدوء والرزانة والتأني والتؤدة فيما هو دون ذلك من أمور الدنيا وما يتعلق بها (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)، وقال تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org