

يُعد وادي العقيق جزءاً أصيلاً من تاريخ وحاضر المدينة المنوّرة حيث ورد ذكره في الكثير من الكتب التاريخية التي رصدت الجوانب الثقافية والاجتماعية لطيبة الطيبة قديماً، كما أنه من أشهر الأودية بالمدينة المنوّرة، ويتربع على أحد جنابته قصر تاريخي للتابعي الجليل عروة بن الزبير - رحمه الله تعالى -.
وفي ذلك السياق، قال الباحث في تاريخ المدينة المنورة ومعالم السيرة النبوية عز الدين بن محمد المسكي: إن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استقطع في عهده أجزاءً من وادي العقيق، ولما وقف -رضي الله عنه- في خيف حرة الوبرة المشرفة على الوادي قال: "أين المستقطعون منذ اليوم؟ فو الله ما مررت بقطيعة شبه هذه القطيعة، فسألها خوّات، فأقطعها له"، وبعد ذلك اشترى عروة بن الزبير هذا الموضع وبنى فيه قصره الذي جاوزت شهرته الآفاق وبئره التي ضُرب بها المثل في عذوبتها وصفائها.
وأضاف أن عروة بن الزبير -رحمه الله- عُدَّ في زمانه من أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنوّرة، وتُوفي نهاية القرن الأول الهجري، وتربع قصره على الشاطئ الشرقي لوادي العقيق بالقرب من ثنية العقيق التي تواجه جبل جماء تضارع في الطرف الغربي من حرة الوبرة, وكان عروة عند بناء القصر قد بدأ في استصلاح الأرض وتسويتها تمهيداً لزراعتها, فحدد الأحواض وحفر السواقي، وشق خليجاً من وادي العقيق إلى أرضه للاستفادة من مائه حيث كانت المباني في أول الأمر عبارة عن جنابذ، والجنبذة بناء بسيط مرتفع ومستدير على هيئة القبة.
وأشار المسكي؛ إلى أنه ولشهرة القصر وصاحبه, لا يزال أهل المدينة المنوّرة إلى اليوم، يسمون الطريق الذي ذكره عروة في شعره بطريق عروة، وكان هذا الطريق هو درب المسافر إلى مكة المكرّمة، وقال: بعد أن شيّد عروة قصره, واستصلح أرضه، حفر ثلاث آبار، بئر داخل القصر، وبئر تسمى العسيلة، وبئر السقاية في ضفة الوادي، في حين لاتزال بئر القصر وبئر السقاية موجودتين إلى هذا اليوم، والبئر الأخيرة بلغ صيتها الآفاق وتغنّى بها الشعراء لعذوبة مائها وصفائه وبرودته, وهي على طريق المسافرين إلى مكة المكرّمة وكانوا يتزوّدون منها بالماء دون غيرها.
وبيّن المسكي؛ أن الأزمنة تعاقبت على هذا القصر واندثرت معالمه عبر العصور, واستخدمت بعض أجزائه ومكوناته في إقامة أبنية أخرى في المكان، إلى أن قامت هيئة السياحة والتراث الوطني بالتنقيب عن القصر خلال ثلاثة مواسم (1433 - 1434هـ), حيث كشف الدكتور خالد أسكوبي؛ عبر التقرير الذي أعدّه نتيجة هذه التنقيبات عن الوصف المعماري للقصر بحسب ما تم اكتشافه حتى الآن.
وأوضح الدكتور خالد أسكوبي؛ أن عملية التنقيب أظهرت أن القصر يحتوي على ثلاثة أفنية بمساحات مختلفة: فناءان تطلان على كل منهما ثلاث غرف، أما الفناء الثالث فيفتح فيه غرفتان ومطبخ, متوسط مساحات هذه الغرف (2.20م × 3.70م)، كما أن جدران القصر بُنيت بحجارة الحرة بسمك 50 سم على بعضها طلاء من الطين وآخر من الجص بينما الأرضيات مدكوكة بالحصى وعليها طبقة من الطين والجص، إضافة إلى وجود بلاط من الأجر وعتبات مشذبة من الحجر البركاني.
وسجل الشعر العربي إعجابه بقصر عروة بن الزبير؛ ومنهم عامر بن صالح؛ الذي قال:
"حبّذا القصر ذو الظّلال وذو البئر ... ببطن العقيق ذات السّقاة
ماء مزن لم يبغ عروة فيها ... غير تقوى الإله في المفظعات
بمكان من العقيق أنيس ... بارد الظل طيّب الغدوات".