انطلقت بنا الحافلة صباحًا من مدينة "سيئول" عاصمة كوريا الجنوبية مخترقة طرقات المدينة الحديثة المكتظة بالمركبات والبشر، متجهة شمالًا نحو قرية "بانمونجوم" الواقعة على الحدود الفاصلة بين كوريا الجنوبية والشمالية. بعد أن تجاوزنا أحياء العاصمة انحدر بنا الطريق حيث الأودية والجبال الخضراء، والغابات التي يلفها الضباب الكثيف.. بعد 3 ساعات وصلنا للمنطقة الحدودية منزوعة السلاح (DMZ) التي تُعَد الأكثر خطورة وتسلحًا في العالم، والممتدة طولًا على مساحة 250 كم، وعرضًا 4 كم، وتفصل شبه الجزيرة الكورية إلى شمال وجنوب، وتمثل الموقع العسكري الذي توقفت عنده الحرب بين الكوريتين التي اشتعلت عام 1950م وتوقفت في 1953م.. وعلى غير العادة، حافلتنا يعمها الصمت؛ فركابها من الصحفيين والإعلاميين الدوليين قلقون بعض الشيء بسبب ما يُتداول عن هذه المنطقة من اشتباكات عسكرية متفرقة، وزاد القلق مع نبرة تشديد المرافقين الأمنيين وتحذيرهم المتكرر من التقاط الصور والتجول دون إذن.
ورغم التوتر الذي يشعر به الزائر للمنطقة بسبب الأسلاك الشائكة، وأبراج الحراسة، وحالة تأهب الجنود، ونقاط التفتيش، والعربات العسكرية المنتشرة، واحتمال تأزم الأوضاع في أي لحظة تؤدي لنشوب حرب نووية بين الكوريتين؛ تظل المنطقة منزوعة السلاح هادئة في معظم الأحيان، والحقيقة أنها مخيفة بعض الشيء لكنها تعد منطقة سياحية، واجتماعية واستراتيجية، وزوارها -وفقًا لمنظمة السياحة الكورية- يُقَدّرون بأكثر من مليون سائح سنويًّا، وهي منطقة غابات، ومزارع، وقرى، وبقالات صغيرة للتحف والأكلات الخفيفة، وفيها مطعم على شكل قطار، وبالقرب منها متحف "كوسونغ" الذي يتكون من 4 أجنحة، وهي: "الميلاد غير المبارك"، و"مواصلة تراث الحرب الباردة"، و"المنطقة منزوعة السلاح تحيا"، و"أرض تحقيق الحلم فيها.. المنطقة منزوعة السلاح".
وتم تخصيص المتحف لعرض الأسلحة، والمطبوعات العدائية، والصور التاريخية للأنفاق الأرضية، والمنشورات، والألغام، والمراكب الخشبية والسيارات الصغيرة التي جُمعت على مدار سنوات الصراع، وعرض صور وفيديوهات وأفلام وثائقية قصيرة تُبرز محاولات هروب الكوريين الشماليين ولجوئهم لكوريا الجنوبية، وآثار وبقايا عسكرية تعود إلى الحرب الكورية في الخمسينيات، كما تضم مرصد "التوحيد" المرتفع الذي من خلاله يمكن مشاهدة الحدود البحرية لكوريا الشمالية، وسكة القطار القديمة التي كانت تعمل بين البلدين.
وعلى الحدود الفاصلة بين الكوريتين رُسِم خط الحد الفاصل باللون الأصفر "للتحذير"، بالقرب من الساحل الشرقي لشبه الجزيرة، ووضعت لوحة مكتوبة باللغة الكورية والإنجليزية تُحَذر من تجاوزه، في ظل انتشار قوات حماية من الأمم المتحدة، وأبراج للمراقبة على مدار الساعة، إضافة إلى وجود حواجز وأسلاك شائكة إلكترونية حساسة تطلق الإنذارات بمجرد استشعار أي حركة، كذلك وجود سياج ولوحات حمراء تحذر من وجود ألغام أرضية مزروعة في المنطقة، والمُلفت وجود نفق إسمنتي بعرض عدة أمتار يمر تحت الأراضي كوريا الجنوبية قام بحفره جنود شماليون يقع على بُعد 2 كم من خط ترسيم الحدود العسكرية، وهو واحد من عدة أنفاق تم كشفها بالصدفة عندما حفر "الجنوبيون" لوضع تمديدات أرضية، كما قيل لنا.. وهذه الأنفاق حُفِرت في السبعينيات الميلادية بهدف مرور 30 ألف جندي من كوريا الشمالية لغزو الجنوب.
وفي ظل الاستفزازات، وطبول الحرب التي تُقرع إعلاميًّا، والقلق من الوضع الخطير في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، يشرح لنا المرافق الأمني "سونج" الذي بالمناسبة قال لي: إن "سبق" هي الصحيفة السعودية الأولى التي تزور المكان؛ مؤكدًا أنه ومع تزايد تهديد كوريا الشمالية بإجرائها مزيدًا من التجارب العسكرية، وإطلاقها صواريخ تجريبية عابرة للقارات، والخوف من استخدامها للأسلحة النووية، وفي المقابل التصعيد الكوري الجنوبي بإطلاق نداءات عبر مكبرات الصوت الضخمة المثبتة في المنطقة تدعو فيها الجنود الكوريين الشماليين إلى الانشقاق، وتكثيفها التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن تَوَحُّد الأمة الكورية -رغم مرور 70 عامًا على تقسيم الكوريتين- ما زال أملًا منتظرًا لمن الْتقينا بهم من الكوريين، والجميع يتطلع لإعلان السلام الدائم بينهما من أجل إعادة لمّ شمل العائلات الكورية المقسمة التي تصل إلى نحو مليون أسرة، طِبقًا لإحصائيات كوريا الجنوبية.