على فترات متقاربة تعلن المملكة عن أحد الاكتشافات الأثرية التي تثبت توطن الإنسان في شبه الجزيرة العربية منذ العصور السحيقة، فقبل نحو عام من الآن في شهر سبتمبر الماضي، اكتشف فريق سعودي دولي مشترك آثارًا تدل على أقدم وجود للإنسان في شبه الجزيرة العربية. وتنوعت الآثار المكتشفة بين أقدام بشر، وفيلة، وحيوانات مفترسة، عثر عليها حول بحيرة قديمة جافة على أطراف منطقة تبوك، يعود تاريخها إلى أكثر من 120 ألف سنة. وأمس اكتشفت بعثة سعودية دولية آثارًا في صحراء النفود شمال المملكة، تقدم أدلة على حدوث هجرات بشرية مبكرة من قارة أفريقيا إلى الجزيرة العربية بدأت قبل حوالي 400 ألف سنة.
وتظهر الآثار المكتشفة تكرار الهجرات على مراحل زمنية متعددة خلال 300 ألف، و200 ألف، و130-75 ألفًا و55 ألف سنة مضت، ويستنتج من هذا التكرار أن شبه الجزيرة كانت منطقة جذب بشري؛ بفضل ما كانت تتمتع به من مناخ رطب مطير، وبيئة غنية بالأنهار والبحيرات والمساحات الخضراء، ويقود هذا إلى إلقاء الضوء على أهمية الاكتشافات الأثرية بالنسبة للمملكة؛ حيث جعلت الاكتشافات من المملكة حلقة مهمة من حلقات دراسة الوجود البشري على سطح الكرة الأرضية، ومن ذلك أن الاكتشافات السالفة الذكر تندرج في إطار مشروع "الجزيرة العربية الخضراء"، الذي يهدف لدراسة العلاقة بين التغييرات المناخية التي تعرضت لها الجزيرة العربية على مرّ العصور وبين الاستيطان البشري فيها، وهجرة البشر إليها عبر قارّات العالم القديم.
ويشترك في المشروع: هيئة التراث، وهيئة المساحة الجيولوجية، وجامعة الملك سعود، ومعهد ماكس بلانك الألماني، وجامعة أكسفورد البريطانية، وجامعة كوين لاند الأسترالية، وتوضح الاكتشافات الأثرية إسهام المملكة في احتضان الحضارة الإنسانية؛ حيث كانت مهدًا لبداياتها، واحتضنت مجموعات سكانية عاشت على موارد البيئة، وصنعت الأدوات المختلفة التي استخدمتها في أنشطتها الحياتية؛ ما يضع المملكة على خارطة الآثار العالمية، لا سيما في ضوء اهتمام المملكة بتنشيط السياحة، في إطار تنويعها لمصادر الدخل، طبقًا لـ"رؤية 2030".
وتمثل الاكتشافات إنجازًا معرفيًّا مهمًّا في سياق مساعي البشرية للتعرف على بدايات تاريخها على الأرض، والأماكن التي استوطنتها المجموعات البشرية الأولى بعد خروج الإنسان من أفريقيا، بحسب ما يعتقد العلماء أن القارة السمراء كانت مهد الإنسانية. وتندرج الاكتشافات التي أعلنت في المملكة أمس ضمن هذا السياق، وحولها أوضح العضو المشارك في بعثة السعودية الدولية البروفيسور مايكل بيتراجليا، أن الاكتشافات تظهر أن شبه الجزيرة العربية كانت مفترق طرق بين القارات، وجسر عبور بين أفريقيا وأوروبا وآسيا، وأن أبرز محطات توسع البشر الأوائل خارج أفريقيا كانت موجات إلى المشرق العربي.