بلاغة "الجناس" في القرآن.. بين الجمالية والتأثير.. هنا قبسات ووقفات

في حلقة "سبق" الرمضانية "22" مع دكتور البلاغة والنقد "زيد الخريصي"
بلاغة "الجناس" في القرآن.. بين الجمالية والتأثير.. هنا قبسات ووقفات

المتدبّر لبلاغة القرآن الكريم يُدرك كونها من أسباب إعجازه؛ حيث جاء في أرفع رتبة من البلاغة، وأعلى درجة من الفصاحة، وتميّز بأعجوبة مفرداته، وبمتانة نظمه، وانتظام دلالته، واستيفائه للمعاني، وحسن بيانه، ودقّة تعبيره، وكان هو المعجزة الخالدة وأحسن الحديث.

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الثانية والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "الجناس" في القرآن، وتستضيف فيها بشكلٍ يومي طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

قال "المتخصص": يعدّ الجناس أحد المحسنات البديعية "اللفظية" في العربية، ويسمى الجناس بـ"التجنيس، والمجانسة، والتجانس"، ويعرف بأنه: "ما اتَّفقت ألفاظه، واختلفت معانيه، أو هو ضرب من التكرار اللفظي الذي يولِّد نغمًا موسيقيًّا، أو هو عبارة عن تشابه لفظتينِ في النطق واختلافهما في المعنى".

نوعا الجناس

وأضاف "دكتور البلاغة والنقد": للجناس نوعان؛ أولًا: الجناس اللفظي؛ وهو: "ما تماثل ركناه وتجانسا خطًّا، وخلف أحدهما الآخر بإبدال حرف فيه مناسبة لفظية، كما يكتب بالضاد والظاء، ومن شواهده قوله تعالى: "وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةࣱ" "القيامة: 22-23"؛ فالأولى: من النضارة؛ وهي: النعمة والحسن، والثانية: من النظر"، وينبثق من هذا النوع أقسام كثيرة لها مصطلحاتها، وتعريفاتها، وقيودها؛ لذا يُعدّ الجناس من أكثر أنواع البديع تبويبًا وتنويعًا عند علماء البلاغة.

وواصل حديثه عن النوع الثاني، بقوله: الجناس المعنوي: وهو إما جناس إضمار، أو جناس إشارة؛ وجناس الإضمار هو: "أن يأتي بلفظ له معنى قريب ومعنى بعيد ويريد البعيد"، وجناس الإشارة هو: "ما ذكر فيه أحد اللفظين وأشير للآخر بما يدلّ عليه"، ومن شواهده قوله تعالى: "ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ * صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ"؛ حيث وقع الجناس المعنوي بين هاتين الآيتين "فالطريق المستقيم هو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وهو ليس بطريق المغضوب عليهم، وليس بطريق الضالين، وقد أفاد الجناس التوضيح والتوكيد".

بلاغة الجناس

وأردف "الخريصي": للجناس تأثير السّحر على المخاطب، بما يحتويه هذا الأسلوب من جرس ونغم يطرب الآذان، ويؤنس الوجدان، ويحرّك الأركان، يقول الدكتور "عبد الفتاح لاشين" في قيمة الجناس في الكلام، وهو: "من الحلى اللفظية والألوان البديعية التي لها تأثير بليغ، تَجذب السامع، وتُحدث في نفسه ميلًا إلى الإصغاء والتلذُّذ بنغمته العذبة، وتجعل العبارة على الأذن سهلة مستساغة، فتجد من النفس القبول، وتتأثر به أي تأثير، وتقع في القلب أحسن موقع".

وأتبع: يُرجع الدكتور "بسيوني عبد الفتاح فيود" بلاغةَ الجناس إلى ثلاثة أسباب؛ هي: التجاوب الموسيقي الصادر عن تماثل الكلمات تماثلًا كاملًا أو ناقصًا، تطرب له الأذن، وتهتزّ له أوتار القلوب، فتتجاوب في تعاطف مع أصداء أبنيتها، وهذا يؤكد بجلاء أهمية الجناس في خلق الموسيقى الداخلية في النص الأدبي، وبناء على ما بين ألفاظه من وشائج التنغيم.

وأما السبب الثاني فقد فنّد "الخريصي": ما يحدثه الجناس من مَيْل إلى الإصغاء؛ لِما فيه من مناسبة الألفاظ، وما يحدثه كذلك من قَصْدٍ إلى تشوف السامع، وتشوقه إلى معرفة أحد معنيَي اللفظ؛ لأن لفظ المشترك إذا حمِل على معنًى ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوف إليه.

وقال عن السبب الثالث: إن الجناس يُعدّ من قبيل "تداعي الألفاظ"، وتداعي المعاني في علم النفس، وله أصله في الدراسات النفسية؛ فهناك ألفاظ متّفقة كل الاتفاق، أو بعضه، في الجَرْس، وهناك ألفاظ متقاربة أو متشابكة في المعنى؛ حيث تُذكر الكلمة بأختها في الجرس وأختها في المعنى".

شواهد وآيات

وعن الشواهد والآيات القرآنية، قال "دكتور البلاغة والنقد": منها ما ورد في "الجناس اللفظي": قوله تعالى: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ" "الناس:1-4"؛ حيث وقع الجناس بين قوله: "النَّاسِ"، وقوله: "الْخَنَّاسِ"، "وجاء هذا الإيقاع في ظل صوت موسيقي آخر ناشئ من ترديد حرف "السين" المهموس، فأوحت هذه الأصوات بجوّ المشهد، وصورة إبليس اللعين الذي ينفر من ذكر الله ويخنس، والاسترسال في ذكر الله تعالى بلفظ "رب، ملك، إله"؛ للشمول والإحاطة بكافة أنواع الاستعاذة والحماية والإغاثة؛ فهو رب الأرباب وملك الملوك".

وختم الدكتور "الخريصي": ومما ورد أيضًا قوله تعالى: "وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ" "النَّمْلِ:92"؛ حيث جمعت الآية الكريمة بين "اهْتَدَى"، و"يَهْتَدِي" "بين الفعل الماضي "اهتدى" الذي يشير إلى العمل الصالح الذي جرى في الدنيا، والفعل المضارع "يهتدي" الذي يشير إلى الحاضر وما سيؤول إليه ذلك العمل الصالح من عاقبة حميدة".

كما جاء "الجناس المعنوي"، ومما ورد فيه قوله تعالى: "وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطا * وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبا" "الجن:4-5"؛ حيث وقع الجناس معنويًّا بين قوله: "شَطَطا"، وقوله: "كَذِبا"؛ لأن "شَطَطا" مجاوزة الحد في الكذب، واجتمع الشطط مع الكذب؛ ليبررا قبح الافتراء على الله.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org