حمل بيان هيئة الرقابة ومكافحة الفساد اليوم الأحد أرقامًا مروِّعة لأعداد المتهمين والمتورطين بقضايا الفساد؛ إذ يعد الرقم الذي أقروا به، وبلغ ٣٧٩ مليونًا، رقمًا ضخمًا، يهز ميزانية الدول؛ فقد استغل ضعفاء الأنفس سابقًا بعض الثغرات لتمرير ما يريدون؛ فقبضوا الأموال بطرق غير مشروعة عن طريق التبييض، أو الرشاوى، وما شابه.. ومثل هذا الرقم المعترف به يستفيد منه المواطن ويدعم التنمية.. فكم سيشيد من مستشفى ومدرسة!
هذه الاختلاسات لا ترتد على النهضة فقط، بل يمتد أثرها على الاقتصاد الوطني؛ فكما هو معلوم سلفًا، لا ازدهار دون رقابة صارمة على المال العام. ولأن الدولة أدركت أهمية حراسة المال، وحمايته من العقود الوهمية، وكل أشكال العبث، وضعت عينها عليه، وراقبته بدقة، كيف يُنفق على المشاريع؟ وكيف تُصرف ميزانيتها "بالريال" على الوجه الصحيح؟
ولم تستثنِ "الرقابة ومكافحة الفساد" أحدًا من الملاحقة والتتبُّع والرصد والاستجواب.. وهذا يحقق مبدأ العدالة الجزائية والإدارية؛ فالفاسد الكبير ملاحَق قبل الصغير، وهذا ما أثبته البيان اليوم؛ فجاء مفصِّلاً التُّهمَ والمتورطين.. فالحديث اليوم عن الفساد والمفسدين لم يعد سرًّا من الأسرار الدفينة الخاصة؛ تُناقَش خيفة بالمجالس.. فالمجتمع بأكمله اكتوى بناره، وعلم بمآلاته.
وبين مستغل للوظيفة، ومرتشٍ، وغاسلٍ للمال، ومبددٍ للثروات.. أبطالها "عقيد" و"عميد" و"لواء"، وقضاة وموظفون بالصحة والبلديات والتعليم.. وقعوا ولم يفلتوا، بعد أن ظنوا أن قطار التقاعد الذي حملهم سيحميهم، لكن خيوط القضية وسير تحقيقاتها أبت إلا أن تشير إليهم؛ فسمَّت وظائفهم، وحددت جرائهم.. وهذه إشارة واضحة إلى أن المرحلة الحالية بدأت بها تحديد الفاسدين بأسمائهم دون مواربة واحتجاب؛ فلا حصانة لأحد مهما علا شأنه وموقعه الوظيفي.
فمن أبرموا العقود المالية التي طوتها السنون استُجوِبوا، وسينالون عقابهم.. والدولة تخوض معاركها مع الفساد، وتسعى لتطهير القطاع الحكومي منه حتى لو بأثر رجعي؛ فلا يمكن أن تكافحه وتبدأ من اليوم؛ فالتجارب تقول لا بد من العودة للوراء، والتفتيش في سجلات الموظفين، خاصة أصحاب المواقع التنفيذية؛ "فالفساد لا يسقط بالتقادم".