بالأمس القريب بدأت بطولة دوري كأس الأمير محمد بن سلمان للمحترفين، وما هي إلا أيام قلائل، وكأنها لمح البصر، حتى أصبحنا على مشارف نهاية الدوري المثير بكل تفاصيله، الذي انحصر التنافس فيه بين قطبَي العاصمة (النصر والهلال). ولأول مرة تظل هوية البطل غائبة، والحظوظ متقاربة حتى الثواني الأخيرة للجولة الـ30 (الأخيرة)، وفيها يلتقي النصر الباطن وفي رصيده 67 نقطة، بينما يلتقي الهلال الشباب ورصيده 66 نقطة. كما يترقب عشاق دوري الأبطال الأوروبي النهائي الكبير بين ليفربول وتوتنهام.. حيث تحضر الإثارة والحماس..
نعم، جميع ما ذكرته عن حماس البطولات والنهائيات ومبارياتها يدعونا للمتابعة.. ولكن!! البطولات الحقيقية هي بتلاوة وختم القرآن، واستشعار عظمة أجر الصيام والقيام في رمضان، شهر الخير الذي يحمل بين طياته ليلة خيرًا من ألف شهر، وقد يكون فرصة أخيرة للبعض، فمَن يدري مَن يعيش غدًا؟
البعض يسهر طوال الليل.. يقلِّب عينيه بين القنوات؛ ليتابع آخر المسلسلات والمسابقات والبرامج، بل حتى الإعادة قد لا تفوته حتى ساعات الفجر!! ثم ينام بعد انقضاضه على مائدة السحور وهو يلتهم الطعام التهامًا، وكأنه في معركة ثأرية.. وبعضهم – للأسف - يتعامل مع وجبة السحور وكأنها الوجبة الأخيرة في حياته، أو أنها بداية حرمان لسنوات قادمة.. ثم ينام لساعات طويلة، ثم يستيقظ ورأسه ثقيل بثقل معدته.. وإن فكَّر بالصلاة فإنه ينقرها كنقر الغراب، وقد يصلي الظهر مع العصر.. ويخرج بعد ذلك من بيته سريعًا لشراء متطلبات وجبة الإفطار وهو يشتم هذا، ويلعن ذاك، وقد يتسبب في وفاة عائلة بعد حادث مروع بسبب قيادته المتهورة.. ويستمر يوميًّا بتكرار نفسه، وكأنه مخزن للطعام، وكل ما يقوم به خلال الشهر هو تعبئة هذا الوعاء وهذه المعدة داخل جسم أجوف بلا هدف.. وينتهي الشهر وقد فاته الكثير وهو لم يدرك أي شيء من الشهر سوى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه.. رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له".
التوتر والعصبية في رمضان.. أصبحا صفة سائدة ومعتادة، والغالبية - إلا من رحم الله - يكونون خارج النص، والعذر المكرر (صايم)!!.. يشتم ويصرخ.. ولا يَسلم من شره قريب أو بعيد.. والسبب (صايم.. لا تكلمني)!!.. يقود سيارته بسرعة وتهور، وقد يتجاوز الآخرين بخطورة.. والسبب (صايم وما له خلق)!!.. الوجه عبوس ومتجهم، ومن النادر جدًّا أن تشاهد ابتسامه رمضانية.. والسبب (الأخ صايم.. وزهقان)!!.. الأخلاق تصل إلى أسوأ درجة من الانحدار الأخلاقي، وإذا خاطبتَه فررتَ منه، وولَّيتَ منه رعبًا؛ لما يظهر عليه من الغضب الشديد.. ثم إذا رجع إليه رشده اعتذر عما بدر منه، وقال: "إني صائم"..
أصبحنا نعلق سوء تعاملنا مع رمضان، وننسب أفعالنا للصيام!!.. البعض يتحجج بالصيام وكأنه هو الصائم الوحيد، وأن جميع مَن حوله مفطرون؛ فخسر روحانية الشهر، ولم يبقَ له من أجر الصيام إلا الجوع والعطش..
البعض ظلم شهرنا المبارك، وقلب المعادلة، وجعل منه شهرًا للإساءة للآخرين.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيام جُنّة؛ فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" رواه البخاري.
هجمة.. مرتدة!!
ما إن اقترب شهر رمضان حتى انفجر الناس في الأسواق بحثًا عن كل ما لذَّ وطاب.. والعربات محمَّلة بالأطعمة.. الزحام شديد (والمتسوقون بالمتاجر كالنمل).. في هذا الشهر تختلف المقادير وأنواع الأطعمة وطريقة التعاطي مع الشهر الكريم.. حجم النفقات التي صُرفت في يومَيْن قبل رمضان بالمليارات، وبزيادة نسبة إنفاق تجاوزت 150 % عن الوضع المعتاد.. التبذير والإسراف من الذنوب العظيمة، وفيهما إهدار لنعم الله.. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].. رمضان شهر التقوى والبر والإحسان والرحمة والمغفرة إلا أننا نبالغ في الإسراف والتبذير بخلاف باقي شهور السنة، وكأن رمضان موسم للأكل وموائد الطعام.. فيأكلون القليل، ويرمون الكثير في حاويات القمامة.. فيما تعاني العديد من الأسر المسلمة الجوع، ولا تجد من يعطف عليها.. علينا أن نفهم المقصد من الصيام لتطهير النفس، وتدريبها على الصبر، والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن بها صلبه، فإن كان فاعلاً لا محالة فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفَسَه"..
فيما تتسابق القنوات الفضائية سنويًّا في رمضان تحديدًا بضخ مئات الملايين لإنتاج أضخم وأكبر الأعمال الدرامية والمسلسلات والبرامج والمسابقات خلال هذا الشهر الكريم.. في سباق محموم (لتعويض غياب تصفيد الشياطين) لإلهاء وصرف المشاهد خلال ساعات الصيام نهارًا وأوقات القيام ليلاً؛ لتكون حصيلة الصائم آخر الشهر هي مجرد أحاسيس وهمية ومشاعر مختلطة من الدراما والقصص التي قد تنعكس على مجتمعنا سلبًا؛ لما تبثه من سموم فكرية..
المضحك أن بعض المسلسلات لم تقدِّم الجديد سوى التكرار، وباتت في كل عام تقدم جزءًا جديدًا، لا يختلف كثيرًا عن سابقيه.. وأمام جميع ما يقدَّم من إسفاف وضياع أوقات للصائمين من مسلسلات وبرامج، تكفي لملء الشاشات العربية عند إعادة بث هذه البرامج تلفزيونيًّا من جديد ولسنوات قادمة..
للأسف رمضان سيمضي سريعًا والبعض لا يزال يتكاسل بالأعمال الصالحة.. أغلب النساء أضعن النهار والليل ما بين المطابخ والأسواق ومتابعة المسلسلات، وكأنه شهر للتسوق والطبيخ والترفيه.. فيما كان بعض الرجال يعبِّر عن جوعه ورغبته بتناول الطعام بتعطيل معاملات الناس وأعمالهم ومصالحهم، والتقاعس عن أداء واجباته.. بل إن البعض يتحايل ولا يحضر لدوامه متجاهلاً أن الرقيب هو رب العالمين.. وإذا ما حضر فإنه يقابل الناس بوجه عبوس، يتطاير الشر منه!! وعند الخروج من الدوام تشاهد أنواع السباقات.. بل إن المقاطع التي رأيناها في الأيام الماضية لبعض الحوادث المروعة التي نتج منها إصابات ووفيات بسبب عناد بعض الأشخاص، ورعونة قيادتهم المركبات، متجاهلين الأرواح البشرية على الطريق..
للأسف، بات شهر الصوم (رمضان) هو المتهم الرئيسي لجميع تصرفاتنا الخاطئة هذه الأيام.. ولا نقول إلا: "ظلمناك.. يا رمضان".. اللهم كما بلغتنا رمضان فاشملنا بعفوك وكرمك ومغفرتك ورحمتك يا كريم.. وكل عام وأنتم بخير.