
من واقعة الأنصاري الذي ظل يضرب عبدًا له بالسوط، إلى واقعة الجمل الذي بكى واشتكى للنبي، قصتان عن الرحمة بالإنسان والحيوان.
والواقعتان وردتا في كتاب "صحيح مسلم"، لمؤلفه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (٢٠٦ - ٢٦١هـ).
وتؤكد الواقعتان على وجوب الرحمة والشفقة واللين ونبذ القسوة والعنف مع كل الكائنات الحية.
أمسك أبو مسعود الأنصاريُّ -رضي الله عنه- غُلامًا (عبدًا مَملوكًا له)، وظل يضربه بِالسَّوطِ"، والغلامُ يستغيث ويقولُ: "أعوذُ باللهِ، أعوذُ برَسولِ اللهِ".
وبينما هو على هذه الحالةِ سَمعَ أبو مَسعود صوتًا مِن خلْفِه يقولُ له: "اعلَمْ أبا مسعود" فَنادى عليه باسمِه ولكنَّه لم يَنتبه بسَببِ شِدَّةِ الغضَبِ.
"فلمَّا دنا" منه صاحبُ الصَّوتِ المُنادي عليه، التفت أبو مَسعود خَلْفه، فإذا هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإذا هو يقول: "اعلمْ أبا مسعود، اعلَمْ أبا مَسعود"، فلمَّا رآهُ أبو مَسعود، سقطَ مِن يدِه السَّوطُ هيبة، ثُمَّ قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اعلمْ أبا مسعود، أنَّ اللهَ تَعالَى أقدَرُ عليكَ منكَ على هذا الغلامِ"، أي: إنَّ قُدرةَ اللهِ على تَعذيبِكَ أكثَرُ وأشدُّ مِن قُدرتِكَ على تَعذيبِ هذا العبْدِ، فاحْذَرِ انتقامَه سُبحانه، ولا تَحملْكَ قدرتُكَ على ذلكَ المملوكِ، أنْ تَتعدَّى فيما مَنعَ اللهُ منه، مِن ضرْبِه عُدوانًا، فلمَّا سَمِع أبو مَسعود رَضيَ اللهُ عنه قوْلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفَهِمَه قال: "لا أضرِبُ مملوكًا بعدَه أبدًا" بعْدَ هذا القولِ الَّذي سَمِعتُه منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: هو حرٌّ لوجهِ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أمَا لو لمْ تَفعَلْ للفَحَتْكَ النَّارُ، أو لمسَّتْك النَّار"، إذ ضَرَبْتَه ظُلمًا، ولم يَعْفُ عنك.
يقولُ عبدالله بن جَعْفَرٍ رضِي اللهُ عنهما: "فَدخلَ" رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، "حائِطًا"، أي: بُسْتانًا، "لِرَجُلٍ من الأنصار" لم يَذكُر اسمَه، "فإذا جَمَلٌ" مَوجودٌ في الحائِط، "فلمَّا رأى" الجَمَلُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم "حَنَّ"، أي: بَكَى بالحَنِينِ، "وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ"، أي: سالَتْ عَيْنَاهُ دَمْعًا، فأَتاه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم "فَمسحَ ذِفْرَاهُ"، وهو المَوضِع الَّذي يَعْرَقُ من قَفا البَعِير عند أُذُنِه، "فَسكتَ"، أي: عن الحَنينِ والدَّمْعِ، "فقال" رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ رَبُّ هذا الجَمَلِ"، أي: مَنْ صاحِبُ هذا الجَمَلِ، فجاء فَتًى من الأنصار "فقال" الفَتَى: لي يا رسولَ الله. فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَفَلَا تَتَّقِي الله"! أي: لماذا لا تَتَّقِي اللهَ في هذه البَهيمَةِ التي مَلَّكَكَ الله إيَّاها؟؛ "فإنَّه"، أي: الجَمَلَ، "شَكَا إليَّ أنَّكَ تُجِيعُهُ"، أي: لا تُطْعِمُهُ حتَّى يُؤْذِيَه الجُوعُ، "وتُدْئِبُهُ"، أي: تُكِدُّهُ وتُتْعِبُهُ في العَمَلِ الكثير.