ما زالت البوصلة الإعلامية السعودية بعيدة عن الاتجاه الاستراتيجي في معظم أحوالها، بل لا أبالغ إذا قلت إنها تتعارض في بعض جوانبها مع السياسة الإعلامية الوطنية واستراتيجياتها.
ذكرتُ في مقال سابق لي إبان بدء "عاصفة الحزم" أن وزارة الإعلام وهيئة الإذاعة والتلفزيون كانتا – وما زالتا - أمام تحدٍّ كبير للتعامل بكل مهنية واحترافية تجاه "عاصفة الحزم"، وإظهار موقف السعودية بصورة مشرفة ومقنعة للمجتمع المحلي والدولي، هذا عوضًا عن التعامل مع الهجمة الإعلامية الشرسة والمقننة من قِبل العديد من القنوات الإعلامية، سواء الإقليمية أو الغربية المضادة لموقف السعودية.. إلا أن إعلامنا لا يزال يسير في نمط روتيني تقليدي، يواجه تلك الحرب الإعلامية بأساليب تقليدية في معظم أحواله، لا تتواكب وعصر العولمة، وربما يغرد أحيانًا خارج السرب.
ثم ها هي الوزارة وهيئتها تواجهان تحديًا آخر بالغ الصعوبة في حادثة "خاشقجي" -رحمه الله-، يتمثل في هجمة إعلامية تركية بالغة المكر والخديعة، لكنها بالغة التأثير في العالم العربي والغربي، ومع ذلك يظل النمط الروتيني هو السائد في إعلامنا إلا فيما ندر.
ونتيجة لهذا الضعف الإعلامي تستمر صورة السعودي أمام الإعلام العربي والعالمي بكونه رجلاً إرهابيًّا متشددًا متعطشًا للدماء والقتل والتدمير، أو امرأة متزمتة جاهلة مسلوبة الإرادة. وإن لم يكن هذا أو ذاك فهو غني ساذج!!
أما ظهور الإعلامي جورج قرداحي مؤخرًا في قناة إيرانية وهو يسبح بحمد رئيس النظام السوري الذي قتل وشرد الملايين من أبناء سوريا، ويبجل الأمين العام لما يسمى بحزب الله، فهو بالنسبة لي أمر بدهي وغير مستغرب؛ فقد اعتدنا نحن السعوديين على أولئك الذين يعضون اليد التي أطعمتهم وكستهم وصنعت نجوميتهم.. والقائمة أصعب من أن تحصى في ذلك.
على كلٍّ، هذه وجهة نظره، وله الحق أن يعبر عنها، وانطلاقًا من القاعدة الإسلامية {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} فهو إعلامي ذو إلقاء متميز، لكن السؤال هنا: من الذي صنع تميزه ونجوميته؟ ومن نعاتب في هذا النكران والخذلان منه؟
بلا شك فالعتب هنا على أنفسنا، وليس عليه؛ فنحن من صنعناه، وجعلناه أيقونة إعلامية في العالم العربي! فالقنوات التي أظهرته ونشرته هي قنوات سعودية، وتُدار بأموال سعودية، كما أن معظم إعلاناتها من تجار السعودية. أما المشاهد السعودي والخليجي فيسهم بأمواله في ذلك من خلال حلبه بطرق لا أخلاقية، على شاكلة أرسل رسالة للتصويت لفنانك المفضل، أو رسالة لتحقيق حلمك!!
إذًا فلا تلوموه ولوموا أنفسكم!!
شكرًا لك قرداحي؛ لأنك أظهرت الجزء المخفي من القصة الذي كان من المفترض من الجميع مشاهدته منذ البداية.. فكم "قرداحي" لدينا في بعض القنوات الخاصة المحسوبة على السعودية بهذه القناعات والمفاهيم؟ وكم منهم يعمل لتغلغل تلك المفاهيم ولو ضمنيًّا في المحتوى الإعلامي؟ هذا عدا من يسعى لتغلغل المفاهيم المصادمة لثوابتنا وقيمنا.
قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر. فمتى نصحو من غفوتنا؟!!
وردت في افتتاحية رؤية 2030 جملة رائعة لأمير الرؤية، يقول فيها: "نحن نملك كل العوامل التي تمكننا من تحقيق أهدافنا معًا، ولا عذر لأحد منا في أن نبقى في مكاننا، أو أن نتراجع لا قدر الله".
وهي كلمة صادقة واقعية فعلاً، فبكل بساطة، ليس هناك ما يبرر استمرار هذا النمط التقليدي الرتيب في إعلامنا الحكومي والخاص، والإمعان في تجاهل تطويره، في حين أننا نملك تأييدًا وإرادة من القيادات، وكفاءات وطنية مغمورة، وفهمًا واضحًا لحجم تأثير الإعلام أمنيًّا وسياسيًّا وقيميًّا، داخليًّا وخارجيًّا.. ولا عذر لنا في أن نظل في ذيل القائمة الإعلامية إقليميًّا ودوليًّا.
دعوني أوجه رسالة لوزير الإعلام الجديد أ. تركي الشبانة، وهو في بدايات طريقه في الوزارة، لأقول له إن مواجهة التحدي الذي تطرحه علينا تلك الهجمات الإعلامية الشرسة، وحملات التضليل والتشويه المقننة لقيمنا وحكامنا وشعبنا، تقتضي قدرًا كبيرًا من الإرادة والشجاعة والطموح، ممزوجة بالجرأة والاحترافية.. فالإعلام في السعودية بحاجة إلى تبني ما يسمى في علم الإدارة بمنهجية "التحول" من قِبل قياداته، وفق منظور احترافي مؤسسي، يستند للابتكار وأفضل الخبرات والتجارب الدولية متأسيًا بثوابتنا ومبادئنا؛ وذلك من أجل الوصول إلى صناعة إعلام سعودي قيمي، يصنع الأثر محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
نتأمل من معاليه تحولاً جذريًّا نحو الاحترافية والعالمية، وبما يحقق تطلعات 2030.
وللإنصاف، فهناك حراك وتطوير في الوزارة، لكنه لا يزال محدودًا، كما يفتقر لبوصلة توضح له الطريق الاستراتيجي، هذا عدا بعض التطوير الشكلي الذي لم يمس الجوهر والمضمون بشكل مؤسسي قيمي!!