أدرك العرب مُنذ العصور إدراكاً تاماً فصاحة القرآن الكريم، وأن آياته تحوي من البلاغة والإعجاز الشيء العظيم، وأن لتعبيراته نمطاً يخالف في نسقه ونظمه وحسن تأليفه ما دأب عليه العرب في نثرهم وشعرهم، كما تعددت صور إعجازه وتنوعت أنماط بيانه وتعابيره، وكذلك أساليبه البلاغية الكثيرة التي يَحفل بها الخطاب الإلهي.
وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "السادسة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "أسلوب الحكيم" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".
قال "الضيف المتخصص": يعد أسلوب الحكيم من المحسنات البديعية المعنوية، عرّفه السكاكي أنه "تَلقِّي المخاطب بغير ما يترقب، أو السائل بغير ما يتطلب"، وشرح الخطيب القزويني هذا التعريف، فقال: "تلقِّي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده؛ تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيًها على أنه الأولى بحاله، أو المهم له"، ويرى شيخ البلاغيين محمد محمد أبو موسى، أن أسلوب الحكيم ضربان من ضروب التعبير: "الأول: حمل كلام المخاطب على معنى غير المعنى الذي يقصده، وفيه شيء من المفاجأة، والحكمة، والتنبيه اللطيف على أن الأولى بمثل المخاطب أن يكون هذا المعنى مراده لا ما ذكره، والثاني: جواب السائل بغير ما يتطلب؛ بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيهاً على أنه الأول"، وورد هذا الأسلوب في (ستة عشر) موضعاً في القرآن الكريم.
وأضاف "الخريصي": عن بلاغة هذا الأسلوب يقول علي الجارم: "قد يخاطبك إنسان أو يسألك سائل عن أمر من الأمور، فتجد من نفسك ميلاً إلى الإعراض عن الخوض في موضوع الحديث، أو الإجابة عن السؤال لأغراض كثيرة؛ منها: أن السائل أعجز من أن يفهم الجواب على الوجه الصحيح، وأنه يَجْمُل به أن ينصرف عنه إلى النظر فيما هو أنفع له وأجدى عليه، ومنها أنك تخالف مُحدِّثَك في الرأي ولا تريد أن تَجْبَهَهُ برأيك فيه، وفي تلك الحال وأمثالها تصرفه في شيء من اللباقة عن الموضوع الذي هو فيه إلى ضرب من الحديث تراه أجدر وأولى".
وواصل "دكتور البلاغة والنقد": من الشواهد القرآنية، قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} "الأعراف:75"، قال المشركون من قوم صالح على وجه السخرية والاستهزاء {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} لمن آمن مع نبي الله صالح -عليه السلام-، فجاء الرد لهم بالمثل وزيادة {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، يقول أبو الفداء إسماعيل حقي في تفسيره: "عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا: نعم، أو نعلم أنه مرسل منه تعالى؛ تنبيهاً على أن إرساله أمر معلوم مقرر عندهم؛ حيث أوردوه صلة للموصول، ومن المعلوم أن الصلة لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب إلى ذات الموصول، فكأنهم قالوا: لا كلام في إرساله؛ لأنه أظهر من أن يشك فيه عاقل، ويخفى على ذي رأي، لما أتى به من هذا المعجز العظيم الخارق، وإنما الكلام في الإيمان به، فنحن مؤمنون به فهذا الجواب من أسلوب الحكيم؛ وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب".
وأردف الدكتور "الخريصي": ومن شواهده قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} "البقرة: 189"، نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم -رضي الله عنهما-، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} "البقرة: 189"؛ جاء السؤال عن حالات القمر، إلا أن الجواب كان خلاف ذلك، يقول محمد عزة دروزة في تفسيره: "ويلوح لنا خاطر في صدد (السؤال عن الأهلّة) إذا كان أراد السائل -حقا- كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه، وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم؛ فالسائل سأل عن السرّ؟ فأجيب بما هو مفيد له، وللناس من حكمة ذلك، وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم، والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية".