خطيب الحرم المكي: التعبد بالذكر في عشر ذي الحجة له مقام متفرد ومقام عليا

أوصى من حرمته الجائحة الوقوف بعرفة باغتنام "خير أيام الدنيا"
خطيب الحرم المكي: التعبد بالذكر في عشر ذي الحجة له مقام متفرد ومقام عليا
تم النشر في

تناول إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، الآثار الإيجابية المترتبة على الرَّغبةَ في الخيرِ، والدَّأَبُ في طَلَبِه، وطَرْقُ أبوابِه، وسؤالُ اللهِ التَّوفيقَ وحُسنَ المعونة على بلوغ أقصى الغاية فيه، حيث أكد أن ذلك شأنُ كلِّ أوَّابٍ حفيظٍ، وديدَنُ من خشي الرَّحمن بالغيبِ، وابتغى الوسيلةَ إلى رضوانِ ربِّه الأعلى بكلِّ محبوبٍ لديهِ.
وقال: الله تعالى أرشد وهدى عبادَه إليه، وحثَّهم على إصابة حظِّهم منه، والتزوُّدِ بنصيبٍ وافرٍ، يصحَبُهم في سَيرهم إلى لقائه؛ أملًا في نزول دارِ كرامتِه، والظَّفَرِ بكريمِ موعودِه، والتَّنعُّمِ بالنَّظر إلى وجهه الكريمِ في جنَّةٍ عرضُها السَّماواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتَّقين.

وأوضح في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم،أنَّ دلائلَ سَعةِ رحمته سبحانه وواسعِ فضلِه على عبادِه، وإرادتِه الخيرَ بهم، لتبدو جليَّةً بيِّنةً في سَعة وتعدُّدِ أبوابِ الخير التي أمرهم ووصَّاهم بها، ودلَّهم عليها، ووجَّه أنظارَهم إليها، بما أنزل عليهم من البيِّنات والهدى في مُحكَم الكتاب، وبما جاءهم به رسولُه المُصطفى، ونبيُّه وحبيبُه المُجتبَى صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه فيما صحَّ سندُه من سُنَّتِه، وما ثبت به النَّقلُ من هَدْيه وطريقتِه، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث إنَّها أبوابُ خيرٍ مُشرعةٌ في كلِّ حينٍ، تستغرِق كلَّ أيَّامِ العامِ؛ فليس شهرٌ من شهوره: إلا ولأيَّامه أو لياليه وظائفُ يلِجُ منها العبدُ إلى جمهرةٍ من الطَّاعات، وحَشْدٍ من القُرُباتِ، يزدلِفُ بها إلى مولاه، وتقرُّ بحُسن الثَّوابِ عيناه!

وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: لقد أظلَّكم زمانٌ شريفٌ، من غُرَر الأيَّام، يُجدِّدُ للمؤمنينَ العَهْدَ بالطَّاعة، ويصِلُون فيه البرَّ بالبرِّ، ويُتبِعُون الحسنةَ بالحسنةِ، ويعقبون الإحسان بالإحسان، وهي الأيَّامُ العَشرُ المباركةُ المُعظَّمة من شهر ذي الحجَّة، التي هي خيرُ أيَّامِ الدُّنيا، وأجلُّ مواسِم الخيرِ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، واللَّفظ له، عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيَّامِ» يعني: أيَّامَ العَشْر, قالوا: يا رسولَ اللهِ! ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ؟! قال: «ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ؛ إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله، فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ».

وأضاف: كلُّ ذلك يدلُّ على سُمُوِّ مكانتها، وعظيم فضلها، وجليلِ مَوقِعِها، وأنَّ الأبوابَ الموصِلةَ إلى رضوانِ اللهِ فيها كثيرةٌ، وأنَّ منافذَ الرَّحمة الربَّانيَّة منها وفيرة، فمن فاته نوعٌ حظِيَ بآخر، ومن عَجَز عن عملٍ؛ فلَنْ يَعجِزَ عن الجميع وفي هذا باعثٌ قويٌّ للمؤمنِ، يحمِلُه على اهْتِبالِ هذه الفضيلة، واغتنامِ هذه الفُرصة، بالازدلاف إلى ربِّه بألوان الطَّاعات، والمسارعةِ إلى مغفرتِه ورضوانه بضُروبِ القُرُبات.

ولفت الشيخ أسامة خياط إلى أنَّ أولى ما يتقرَّبُ به العبدُ لربِّه في هذه الأيَّام: إقامةُ الفرائضِ، واجتنابُ المحارمِ؛ فإنَّها رأسُ التعبُّد وعَمُودُه، كما جاء في الحديث القُدْسيِّ الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ قال: وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه» ثم يُعقب الفرائض بضروب من التعبُّد بنوافلِ الطَّاعاتِ، من صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وتلاوةٍ وصلةٍ، فإنَّها تورثُه درجةَ المحبوبيَّة، التي أشار إليها رسولُ الهدى-صلواتُ اللهِ وسلامه عليه- بقوله حكايةً عن ربِّه: «وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه، كنتُ سَمْعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، وإنْ سأَلَني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني، لأُعيذنَّه» الحديث.

وذكر "خياط" أنَّ في التعبُّد لله تعالى بعبوديَّة الذِّكرِ في هذه العَشْرِ: لموقعًا مُتَفرِّدًا، ومقامًا عليَّاً؛ ذلك أنَّ الذِّكرَ هو خيرُ الأعمالِ وأزكاها عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما جاء في الحديث عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبِّئكمْ بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذَّهبِ والوَرِق، وخيرٍ لكم منْ أنْ تلقَوا عدوَّكم؛ فتضرِبوا أعناقَهُم، ويضربوا أعناقَكم؟» قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! قال: «ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ» وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبقَ المُفرِّدونَ» قالوا: وما المُفرِّدونَ يا رسولَ الله؟! قال: «الذَّاكِرونَ الله كثيرًا والذَّاكراتُ».

وقال: ولئنْ كانَ هذا هو شأنَ الذِّكر في عموم الأحوال، فهو في هذه العشر أظهرُ شرفًا، وأعظمُ منزلةً؛ ولذا جاء تخصيصُه-تعظيمًا له واهتمامًا به- من بين سائر الطَّاعات، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيَّامٍ أعظمُ عندَ اللهِ، ولا أحبُّ إليهِ العملُ فيهنَّ، من هذه الأيَّامِ العشرِ؛ فأكثِروا فيهنَّ من التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميد»، وإنَّ «على كلِّ جارحةٍ من الجوارحِ-كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله- عبوديَّةً مؤقَّتةً، إلا الذِّكرَ؛ فإنَّه عبوديَّةُ القلبِ واللِّسانِ وهي غيرُ مؤقَّتةٍ، بل هم مأمورون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كلِّ حالٍ: قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم وهو جِلاءُ القلوبِ وصِقالُها، ودواؤُها إذا غَشِيَها اعتلالُها، وكلَّما ازداد الذَّاكرُ في ذكره استغراقًا، ازداد لمذكوره محبَّةً وإلى لقائه اشتياقًا، وإذا تواطأ على الذكر القلبُ واللسانُ، نسِي العبدُ في جنب ذكره كلَّ شيءٍ، وحفِظَ الله عليه كلَّ شيءٍ، وكان له عوضًا من كلِّ شيءٍ، وهو خاتمة الأعمال الصَّالحة كما هو مفتاحُها، وهو قرينُها وروحُها، فمتى خلت منه كانت كالجسد بلا روح.

وأردف بالقول: ذكرُ العبدِ لربِّه محفوفٌ بذكرين من ربِّه له: ذكرٍ قبلَه به صار العبدُ ذاكرًا، وذكرٍ بعدَهُ به صار العبدُ مَذْكورًا، كما قال تعالى: وقال فيما يرويه عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَكَرَني في نَفسِه، ذَكَرْتُه فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرني في مَلَأ، ذَكَرْتُه في مَلَأ خيرٍ منهم».

وشدد "خياط" على أنَّ كلَّ عملٍ صالحٍ في هذه العشر محبوبٌ مطلوبٌ، داخلٌ في جميلِ الموعود وكريمِ الفضل، فليستْ هذه العشرُ مقصورةً على لون واحد من التعبُّد، بل هي مضمارٌ لاستباق الخيرات، وميدانٌ فسيحٌ للباقيات الصالحات، يتنافس فيه المتنافسون، ويجتهد فيه المُخبتون، ولهم في سلوكهم إلى الله مسالك شتَّى؛ «فمنهم من يكون سيد عمله وطريقه طريق العلم والتعليم، قد وفَّر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله؛ فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم، حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، ويُفتح له فيها الفتحُ الخاص.
وأشار إلى أن من الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر: رأى أنه قد غبن وخسر ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها: أظلم عليه وقته وضاق صدره ومن الناس من يكون طريقُه الإحسانَ والنَّفع المتعدِّي، كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللَّهَفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه، وساءت حاله ومنهم من يكون طريقه الحج والاعتمار ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

وأكد خطيب الحرم المكي أن من الناس الجامع لتلك المنافذ، السَّالِكُ إلى اللهِ في كلِّ وادٍ، الكادِحُ إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قِبلةَ قَلْبِه، ونُصْب عينه، يؤمُّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب من كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علم وجدته مع أهله، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكرٌ وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو ومراقبة ومحبةٌ وإنابةٌ إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنَّى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، فهذا هو العبد السالك إلى ربه حقيقةً».

وأوصى المسلمين بتَّقوى الله والأخذ بحظٍّ وافرٍ من هذه الأيَّام المباركة، وأن يرعوها حقَّ رعايتها، بتمام الحرصِ على ذكر اللهِ تعالى فيها وشكره وحُسنِ عبادته، محذرًا من إضاعةِ فُرصتِها، وتفويتِ مغنمها، والتَّفريطِ في جميلِ الموعودِ عليها.

وأشار إلى أن لتفضيل هذه العشرِ المباركة على غيرها من أيَّام العامِ: سببًا بيَّنه الحافظ ابنُ حجر رحمه الله بقوله: «والذي يَظْهَرُ: أنَّ السَّبَبَ في امتِيَازِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ؛ لمكان اجتماعِ أُمَّهاتِ العِبادةِ فيهِ، وهيَ: الصلاةُ والصِّيَامُ والصَّدَقَةُ والْحَجُّ، ولا يَتأَتَّى ذلكَ في غيرِهِ» وأنه لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدته في كل عام، فَرَضَ على المستطيع الحجَّ مرةً واحدةً في عُمُره، وجعل مَوسِمَ العَشْرِ مُشترَكًا بين السَّائرين والقاعدين؛ فمن عَجَزَ عن الحجِّ في عامٍ، قَدَر في العَشْر على عملٍ يعمله في بيتِه يكون أفضلَ من الجهادِ، الذي هو أفضلُ من الحجِّ».


وقال "خياط": ألا فمَن حُرِم بهذه الجائحة من شرف الموقف بعرفة، فليقف بين يدي الله بشرف الذلِّ والحبِّ والأنس والمعرفة ومن حيل بينه وبين المبيت بمزدلفة، فليزدلف إلى ربه في كل حينٍ وآنٍ يَشكرْ له ما أزلفه ومن حُصِر عن البيت مخافةَ الوباء؛ فليُنزل حاجته برب البيت؛ فإنَّ رزقه ليس له انقضاء، وإنَّ يدَه بالخير لسَحَّاء الليل والنهار .

وأضاف: ومن أراد التقرب إلى ربه سبحانه بنحر الأضاحي يوم النحر، فليتقرب إليه عز وجل بأن لا يأخذ من شعره وأظافره حتى يضحي، عملًا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا دَخَلَتِ العَشْرُ، وأَرادَ أحَدُكُمْ أنْ يُضَحِّيَ، فلا يَمَسَّ مِن شَعَرِهِ وبَشَرِهِ شيئًا فاتَّقوا اللهَ واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم، إذ هيَّأ لكم من مواسم العُمُر، ونفائسِ الأيَّامِ، ما تعمرونَه بعباداتٍ ترضون بها ربَّكم، وتطمئنُّ بها قلوبُكم، وتزكو بها نفوسُكم، وتطيبُ بها حياتُكم .

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org