جلبت أحمال القوافل على ظهور الإبل، التي شقّت طريقها برًا وبحرًا لتمد جسور التجارة الأولى، ولتكون شواهد تاريخية لعلاقة الإنسان قديمًا بالبيع والشراء وفوائدها، إلى جبال الطائف، أداة جديدة مطورة عُرِفَت باسم "الإمبيق"، التي اختصت بحرفة تقطير الورد -إحدى الحرف والمهن القديمة- التي أتقنها الأجداد في أرض الجزيرة العربية، وحافظ الأبناء على انتشار رونقها وأصالتها في مختلف مناطق المملكة عمومًا ومحافظة الطائف بشكل خاص.
ورسمت قوافل التجارة بدايات التطور الحضاري والاقتصادي لمزارع الورد الطائفي، حينما حطت رحالها على قمة جبل غزوان محملةً بجهاز الإمبيق، الذي أضفى رونقًا مختلفًا في صناعة منتج ورد الطائف عن غيره من الصناعات الأخرى، وما أوجده هذا الجهاز للورد من محبة لدى الإنسان الطائفي على مر التاريخ، إلى جانب ضمان استمرار تواجد أقدم مصادر العطور في التاريخ، التي استعملها العرب في التطيّب، وما استُخرج منه من ماء الورد، الذي مثَّل عنصرًا مهمًا في التجارة عبر العصور القديمة.
وأتقن الآباء والأجداد الأولون في محافظة الطائف، تعاليم جهاز الإمبيق "التبخير" في استخلاص دهن وماء الورد وعمليات تقطيره، التي تعتمد جميعها على طريقة تكثيف البخار وتحويله إلى الصورة السائلة، وما أضفى عليه من طرق تقليدية من خلال إنشاء مواقد نارية ومبانٍ طينية مُزِجَت بالحجارة تتفاوت في مساحتها ما بين المتر والثلاثة أمتار وبارتفاع متر، واعتمد فيها على تكثيف البخار الناتج من أزهار الورد وتحويله إلى سائل يتساقط على شكل قطرات لينزل في داخل إناء زجاجي، يعبأ مستخلصاته المنتجة في زجاجات صغيرة ويكون جاهزًا للتسويق ويمثل في النهاية دهنًا وماء ورد زكي الرائحة؛ يُستخدم في تطييب الكعبة المشرفة والمسجد النبوي، أو في الطعام أو في الجسم وغيرها من الاستخدامات الأخرى.
وأوضح لوكالة الأنباء السعودية "واس" عضو هيئة التدريس بقسم الكيمياء بجامعة الملك سعود الدكتور أحمد الغامدي، أنه في تاريخ علم الكيمياء يعـد جهاز الإمبيق وعملية التقطير من المعالم البارزة في تقدم مسيرة صنعة الخيمياء ومعجزة الكيمياء، ولهذا لا غرابة أن جميع الشعوب حاولت ربط حضارتها برابطة كيميائية وآصرة تاريخية بجهاز الإمبيق، وأنه في محيطنا العربي المحلي نزعم أن أبا الكيمياء العربي جابر بن حيان هو من اخترع جهاز الإمبيق بدلالة أن اسم هذا الجهاز باللغة الإنجليزية هو Alembic مما يشي بأصله العربي.
وأضاف "الغامدي": قبل فترة من الوقت تعمقت في قراءة كتاب (العلوم والتكنولوجيا في الصين)، وفي حينها عرفت أن أولى العمليات الكيميائية المعقدة باستخدام جهاز التقطير مثل استخراج الزئبق من مسحوق الزنجفر، تمت ليس بجهاز إمبيق فخاري عربي، ولكن بجهاز نحاسي صيني، حيث إن معرفة الصين لجهاز التقطير تعود في أقل تقدير إلى فترة حكم سلالة الإمبراطورية الثانية، التي وُجِدَت في القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الإمبيق الحيّاني الكوفي بثمانية قرون كاملة، مشيرًا إلى أنه ليست فقط الصين العتيقة هي من زاحم جابر بن حيان على شرف جهاز التقطير، ولكن وصل الأمر إلى العصر الحديث، وبالذات في الجمعية الكيميائية الأمريكية، التي تحمل شعارًا ACS logo هو شكل مطور ومعقد لجهاز التقطير يدعى kaliaappart استُخدم ليس فقط لفصل المركبات الكيميائية، ولكن أيضًا لتفكيكها ومن ثم تخمين تركيبها الكيميائي.
وأشار إلى أن "شذى التعطير في كيمياء التقطير" اعترف بفضل وأثر جهاز الإمبيق على أهل الكيمياء، وقال: بحكم أنني وُلِدت وترعرعت في مدارج الطائف المأنوس فهي الحب الأول والأوحد، ومع ذلك أود أن أفصح وأبين أن لجهاز الإمبيق دورًا محوريًا في ضمان وصف (مدينة الورد City of Roses) لمدينة الطائف، التي يُستخدم فيها جهاز الإمبيق لاستخلاص العطور ورحيق الزهور.
وعن وصف الجهاز، قال: "جهاز الإمبيق يتكون من جزأين، الأول وعاء للتقطير، والآخر إناء زجاجي أو نحاسي توضع فيه المواد المراد تقطيرها مثل الورد الطائفي أو أي مواد نباتية عطرية أخرى، ويتم من خلاله تسخين الماء داخل الوعاء، وينتج عن ذلك تبخير المواد العضوية سهلة التطاير من المواد النباتية، حيث يصل البخار المشبع بالروائح المتطايرة إلى الجزء الثاني من جهاز التقطير (الإمبيق)، وهو رأس التقطير أو أنبوب التبريد، وفيه تتم عملية تكثيف وتقطير البخار العطري إلى قطرات سائلة يتم تجميعها في وعاء زجاجي"، مؤكدًا أنه في العصر الحديث تم تطوير وتحسين عمل جهاز التقطير ليتم التحكم به بشكل أكثر دقة، إلى جانب استخدام مذيبات أخرى غير الماء في عملية الفصل والتقطير؛ مثل استخدام المذيبات العضوية.
وتشتهر محافظة الطائف بزراعة وإنتاج الورد، الذي يعد أكثر العطور استخدامًا بين الأفراد محليًا وعالميًا، ومن المصادر الرئيسة للعطور في المملكة.