يبدو أن التعامل الفكري والتحليلي والحركي للغاضبين من الشعوب العربية والإسلامية ضد "التطبيع الإسرائيلي" هو تعامل نمطي قديم ومستهلك، يدور حول دائرة التطبيع ذاته، والصراع فيه، دون محاولة -للأسف- من الشعوب للبحث والتغيير والتجديد الذي يؤسس لها ولدولها والمنطقة منطلقات مرحلة جديدة في المنظومة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية وغيرها. كذلك دون رغبة للخروج عن الاستعمار الفكري العقائدي العالق والمتغلغل "للقومية" و"الإخوانية" الذي عمل ولا يزال على استثمار إنتاج "السلطة" في بعض دول الخليج والدول العربية والإسلامية بمسميات الدين الإسلامي والفقه والاجتهاد والجهاد والفتوى والقتال، وتأسيس للجماعات والأحزاب والحشود وغيرها من خلال آليتهم الممنهجة للخطاب الديني عبر المؤسسات الدينية والإعلامية الحركية ذات الديمومة والفاعلية لإبقاء العقل العربي والإسلامي في أقصى درجات التبعية والتنميط والترميز والتقديس.
لن أخوض في تاريخ تركيا، ولا دول أخرى، ولا تاريخ أنصار القضية الفلسطينية من أتباع الإخوان، ولا زعماء المفاوضات ومحادثات السلام من الفلسطينيين الذين يبيتون سجدًا وقيامًا منذ أكثر من 50 عامًا في بناء ثرواتهم ومصالحهم الشخصية بعيدًا عن مصلحة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فما سجل التاريخ لهم إلا واقع الخيانة والغدر والتعاون سرًّا وعلانية لترسيخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ولعل ما يثير التساؤلات بعد تطبيع العلاقات مؤخرًا بين دولة الإمارات وإسرائيل هو حجم الهجوم والعداء وهراء النقد السياسي والإعلامي، وجعل "التطبيع" في القضية الفلسطينية مشروع ابتزاز للعالم وللعرب والمسلمين، بينما يتجاهلون خيانات الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني، ويتغافلون غدر التحزبات والحركات السياسية الفلسطينية، ودورها في سحق القضية الفلسطينية.
عندما يؤيد الكثير "التطبيع" في العلاقات مع إسرائيل فهو لإدراكه حاجة التغيير، وضرورة الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، ولأهمية إعادة فتح الطريق أمام مفاوضات السلام بشكل واضح ومباشر دون تدليس أو القفز من الخلف؛ فلم يعد من الحكمة والمصلحة استمرار خلق المعاداة في ظل الأوضاع والأزمات التي تمرّ بها المنطقة، ولمواجهة المخاطر الأمنية المشتركة. وكما قال ونستون تشرشل: ليس في السياسة صديق دائم، كما ليس فيها عدو دائم.
وليدرك العرب أن كل من استنكر وعارض ومارس الشجب والتنديد من متسولي القضية الفلسطينية هو من يقوض فرص السلام، ويهدد السلم.
وأخيرًا: "التطبيع" مع إسرائيل هو حق سيادي لكل دولة، ولا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية؛ فالشعوب العربية والإسلامية الآن بأجيالها الجديدة تحتاج إلى السلام والاستقرار والبناء والتنمية، فلا تغرقوهم بأوهام الزعامة والنصر، ولا تضعفوهم بالتمسك بصراع تاريخي، كل أسبابه وأطرافه انتهت.