يبدو أن رواج السوق الحالية ممهدة للعيادات المتخصصة أكثر من أي مهنة أخرى؛ لهذا تجد بالعمائر القابعة على ناصية الشوارع التجارية كمًّا هائلاً من اللوحات الدعائية: عيادة أسنان، عيادة تجميل، عيادة حمية غذائية.. وغيرها؛ لذا بدأتُ أفكر جديًّا بترك مهنة المحاماة والاستشارات القانونية الشاقة، والدخول بشركة محاصة لمزاولة مهنة الطب من خلال افتتاح عيادة تواكب أكثر أمراض العصر تفشيًا؛ وذلك لمعالجة إدمان الناس من مختلف الأعمار لوسائل التواصل الاجتماعي، مقترحًا أن يكون الاسم الذي يزين اليافطة الدعائية بواجهة المقر مشتقًّا من نشاطها (عيادة السوشيال ميديا).
لقد بات الرجل أو المرأة بمجتمعنا على حد سواء عند محاولته الهروب من الضغوط اليومية، لا يعاني فقط انفصام الشخصية، بل انفصام ماسورة شخصيات عالية الضغط؛ لهذا تبهرك إطلالته البهية في (السناب شات): قمة في الوسامة والرومانسية، وقد صفف شعره بـ"الجِل" و"الكِريم"، وارتدى معطفه ونظارته الشمسية؛ ليبدو وكأنه توم كروز أو جورج كولوني!!
لكنه سرعان ما يخلع كمالياته، ويرتدي قناع المناضل استعدادًا لخوض معارك القومية وهموم الشعوب العربية في (الفيس بوك)؛ لتلمس في عباراته رمزية الشاعر العراقي أحمد مطر، وسخرية الكاريكاتيري الفلسطيني ناجي العلي.. وما بين هذا الموقع وذاك تجده يختلس النظر لرسائل (الواتس آب) التي يتعامل معها كالمهرج متقمصًا الشخصيات كافة، بحسب الرسالة أو المقطع الذي يصله!!
هذا المناضل الوهمي يفيق في منتصف الليل بعد أن غلبه النوم، وأجهده لعب أدوار الشخصيات المختلفة بالعالم الافتراضي؛ ليشعل المصباح بجانب سريره، ويفتح جواله على (تيك توك)؛ ليتصفح المقاطع الطريفة، ويدخل بنوبة ضحك هيستيرية، ثم ما يلبث أن يمتطي صهوة الثورية، ويدلف لحسابه في (تويتر)، ويشارك بالهاشتاق الترند، وقد نحّى القومية والضحك جانبًا؛ ليبدو وكأنه الثوري تشي جيفار أو فيدل كاسترو!!
وبينما هو كذلك ترده رسالة حميمية بـ(الماسنجر) أعلى الشاشة؛ فتُحيي الرومانسية بداخله؛ ليتحول إلى رشدي أباظة في فيلم (حب من أول لقاء). وما إن تنتهي قصته الغرامية حتى يتصفح موقع جريدته المفضلة؛ فتستفزه تلك المقالة المثيرة للجدل؛ فيشحذ الشتائم والبذاءات كافة من قاموس مفرداته دون حياء، ويوجِّهها للكاتب ضاربًا بحرية الرأي عرض الحائط. وحين لا يجد ردًّا يشتاط غضبًا، ويغلق جواله، ويخلد لفراشه مكملاً نومه وشخيره!!
الغريب أن هذه العينة التي تعاني فصام (عشرية القطبي)، سواء كانت رجلاً أو امرأة، فشلت فشلاً ذريعًا في حل مشاكلها الأسرية والعملية؛ لهذا تجدها تعيش على هامش الحياة، تحاول إشغال أوقات فراغها بأن ترتدي عباءة الواعظ، وتوهم الناس بأنها الناصح الأمين!!
وها هو العصر قرب أذانه، وللتو يستيقظ من نومه؛ ليفتح جواله على (الإنستجرام) فتنساب على خده دموع الذكريات الجميلة وهو يرى صور أطفاله الغائبين عنه منذ وقوع الطلاق، ثم يستلهم صوره بالعمل بعد أن أصبح عاطلاً، وصوره مع أصدقائه الذين تخلوا عنه بمحنته. لقد فشل فشلاً ذريعًا في حل قضاياه الشخصية، وها هو اليوم يحاول حل قضايا العالم كله؛ لهذا لا بد من كتابة تحويلة عاجلة لهذه الحالة المتقدمة، وإيجاد سرير شاغر لها في (مصحة السوشيال ميديا)!!