بلاغة القرآن الكريم.. أسرار وتأثير فاقت حدود العقل في التفكير

في حلقة "سبق" الرمضانية الثانية من "قبسات بلاغية" مع "الخريصي"
بلاغة القرآن الكريم.. أسرار وتأثير فاقت حدود العقل في التفكير

المُتمعّن في معاني القرآن الكريم، يُدرك نزوله مُتحديًا العرب في بلاغة تعبيرهم وفصاحة لسانهم، ومليءٌ بالمواقف والصور المتنوعة التي تُشكّل عيونًا من الفصاحة لا ينضب معينها، ولا تنتهي أسرارها.

"سبق" تستعرض في الحلقة الرمضانية الثانية من "قبسات بلاغية" جانبًا من بلاغة القرآن الكريم مع دكتور البلاغة والنقد زيد بن فرج الخريصي.

وقال في حديثه: "تتنوّع الأساليب البلاغية في القرآن الكريم، وتختلف أسرارها باختلاف المقام الذي سيقت من أجله؛ ليكون لها عظيم التأثير في نفس المتلقي، ومن هذه الأساليب (المجاز المرسل)، كما جاء في الآية السابعة من سورة نوح، في قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ…}، حيث عبّر بالأصابع وأراد أطرفها، وبعضها؛ لأنه لا يمكن أن يدخل كامل الأصبع في الأذن، فضلًا عن دخولها جملة واحدة، وهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء؛ ليصور لنا القرآن مدى إعراضهم عن كلامه، وهو مشهد عجيب حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه أضواء وأصداء، هو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية، ويجسم صورة شعورية كأنها مشهد محسوس".

وأضاف "الخريصي" أن من هذه الأساليب (أسلوب التشبيه)، كما في الآية (26) من سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وأما الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، حيث ضرب الله المثل بالبعوضة، وهي من أصغر وأحقر الحشرات؛ ليوازي ويماثل بها حال المنافقين الذين انشغلوا بالدنيا حتى أهلكتهم، وكذلك البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، وهو تشبيه معنوي معقول بشيء محسوس؛ لتقريبه وبيانه في ذهن المتلقي.

وتابع أن من هذه الأساليب (أسلوب الأمر) كما في الآية (94) من سورة البقرة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. الأمر في القرآن الكريم ليس على حاله، فيكون على ظاهره حينًا، وعلى خلاف الظاهر حينًا آخر، ويختلف ذلك باختلاف المقام، ومن خروج عن ظاهر ما جاء في هذه الآية الكريمة، إلى معنى التعجيز؛ فالإنسان لا يملك أن يميت نفسه إلا بإذن خالقه -جل وعلا- وهذا معلوم لدى البشر جميعًا، ولكن جاء الأمر {تَمَنَّوُا} تعجيزًا لليهود، وزيادة في توبيخهم وتقريعهم، قال حبر الأمة، وترجمان القرآن؛ ابن عباس رضي الله عنه: "لو تمنى اليهود الموت لماتوا".

وواصل دكتور البلاغة والنقد حديثه بالقول: يقابل هذا الأمر (النهي)، والأمر والنهي يندرجان تحت (الإنشاء الطلبي)، وهما أسلوبان متضادان في المعنى، لهما وقعهما الخاص في نفس المتلقي، ومن (النهي) ما جاء في الآية (132) من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، وما قيل في (أسلوب الأمر) يقال في النهي؛ فالنهي نهيان: نهي على ظاهره، ونهي خلاف ظاهره، ومن النهي الظاهر ما جاء في هذه الآية الكريمة، فالنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، والنكتة في التعبير بذلك؛ ليبين أن موتهم على غير الإسلام لا خير فيه.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org