
من حديث "لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضَّعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتعتعٍ"، إلى موقف الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، حين طلب من أحد المسلمين أن يضربه، وانتهاءً بقصة فيروز الديلمي مع فتى قريش، كلها مواقف وعبارات تجسد فضيلة العدل في أسمى صورها، كما ظهر في المجتمع الإسلامي وهو يتكون بشكل صحيح.
والعدل خلق عظيم، واسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته العُلا، أمر الله به أنبياءَهُ والصالحين من عباده، قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل: 90)، وقال تعالى "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء: 58 ).
وكما جاء في "لسان العرب"، عَدْلُ في اللغة ضِدُّ الجَوْرِ أو الظلم، وما قامَ في النُّفوسِ أنه مُسْتَقيمٌ، واصطلاحًا، فإن العدل مفهوم شامل يتضمن المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وإعطاء كل ذي حق حقه، بل إنه يتسع ليشمل غير الإنسان من نبات وحيوان.
وفي هذا الحديثِ من كتاب "صحيح سنن ابن ماجه"، لمؤلفه ابن ماجه؛ محمد بن يزيد الربعي القزويني، وتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، يقولُ أبو سعيدٍ الخُدريُّ رضِيَ اللهُ عنه: "جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتقاضاه دَينًا كان عليه"، أي: على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فاشتَدَّ الأعرابيُّ عليه"، أي: أكثَرَ الأعرابيُّ في طلَبِه لدَينِه على رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "حتَّى قال له: أُحَرِّجُ عليك إلَّا قَضَيتَني"، أي: أُوقِعُك في الحرَجِ والضِّيقِ أن تقَضيني دَيني، "فانْتهَرَ (زجر) أصحابُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الأعرابيَّ لفعْلِه وشِدَّتِه على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وقالوا: وَيْحَك"، وذلك لتعدِّيه على رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "تدري مَن تُكلِّمُ"؟ فقال الأعرابيُّ: "إنِّي أطلُبُ حقِّي"، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصحابِه: "هَلَّا مع صاحبِ الحقِّ كنتُم"، أي: كان اللَّائقُ بكم أنْ تكونوا مع صاحبِ الحقِّ، وهو الأعرابيُّ، وذلك مِن حُسنِ خُلقِه وتَوجيهِه، وأنَّ المرءَ لا يستنصِرُ لأخيه في باطلٍ.
قال أبو سعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ أرسَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "إلى خَولةَ بنتِ قيسٍ، فقال لها: إنْ كان عِندَكِ تمْرٌ فأَقْرِضينا"، أي: أعطينا سلَفًا، "حتَّى يأتيَنا تمْرُنا" مِن تمْرِ خيبرَ أو غيرِه، "فنَقضِيَكِ"، أي: نرُدَّ لك دَينَك، "فقالت: نعمْ بأبي أنتَ يا رسولَ اللهِ"، أي: أفديك بأبي يا رسولَ اللهِ، "فأقرَضَتْه، فقَضى الأعرابيَّ"، أي: أدَّى إلى الأعرابيِّ حَقَّه ودَينَه، "وأطعَمَه" وهذا مِن كرَمِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ أنَّه أطعَمَه كضَيفٍ، فقال الأعرابيُّ: "أوفَيْتَ أَوْفى اللهُ لك"، أي: قَضيتَ دَينَك، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أولئك خِيارُ النَّاسِ"، أي: الَّذين يُوفونَ للنَّاسِ حُقوقَهم، "إنَّه لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضَّعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتعتعٍ"، أي: لا زُكِّيَت ولا طُهِّرَت أمة لا يأخذ فيها الضعيف حقه بلا إكراهٍ، ودونَ أنْ يُصيبَه أذًى يُقلِقُه ويُزعجُه، ودونَ مماطلة، وهذا من كمالِ رأفتِه وشفقَتِه على النَّاسِ.
ذات يوم أعلن الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه سيوزع صدقات الإبل بعد الفجر، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها خذ هذا الخطام (ما يربط به الجمل) واذهب لعل الله يرزقنا جملاً.
فأخذ الرجل الخطام، وذهب في الموعد، فوجد أبابكر وعمر-رضي الله عنهما- قد دخلا على الإبل، فدخل وراءهما، فلما رآه أبوبكر -رضي الله عنه- أخذ منه الخطام، وضربه به.
فلما فرغ أبوبكر -رضي الله عنه- من تقسيم الإبل، طلب الرجل وأعطاه خطامه وقال له استقد (اضربني كما ضربتك)، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لا يستقد، لا تجعلها سُنَّة.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن لي من الله يوم القيامة؟ فقال عمر: إذن ارضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحِلة ورحلها، وقطيفة وخمسة دنانير، فأرضى بها الرجل، وبعدها انصرف الرجل راضيًا.
كتب عمر بن الخطاب إلى فيروز الديلمي أما بعد: فقد بلغني أنه قد شغلك أكل الألباب بالعسل فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم على بركة الله فاغز في سبيل الله فقدم فيروز فاستأذن على عمر فأذن له فزاحمه قوم من قريش فرفع فيروز يده فلطم أنف القرشي فدخل القرشي على عمر مستدمي فقال له عمر: من بك قال: فيروز (فعل ذلك) وهو على الباب، فأذن لفيروز بالدخول فدخل فقال: ما هذا يا فيروز قال: يا أمير المؤمنين إنا كنا حديث عهد بملك وإنك كتبت إلي ولم تكتب إليه وأذنت لي بالدخول ولم تأذن له فأراد أن يدخل في إذني قبلي فكان مني ما قد أخبرك قال عمر: القصاص قال فيروز: لا بد قال: لا بد قال: فجثا فيروز على ركبتيه وقام الفتى ليقتص منه فقال له عمر: على رسلك أيها الفتى حتى أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة يقول قتل الظيلمة الأسود العنسي الكذاب، قتله العبد الصالح فيروز الديلمي، أفتراك مقتصًا منه بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الفتى: قد عفوت عنه بعد إذ أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال فيروز لعمر: فترى هذا مخرجي مما صنعت إقراري له وعفوه غير مستكره قال: نعم قال فيروز: فأشهدك أن سيفي وفرسي وثلاثين ألف من مالي هبة له قال: عفوت مأجورًا يا أخا قريش وأخذت مالاً.