"العرب ظاهرة صوتية".. جملة سمعناها ورددناها كثيرًا حتى أصبحت أشبه بالمثل الشعبي. قالها المفكر عبدالله القصيمي قبل نصف قرن، بل جعلها عنوانًا لأحد أشهر كتبه.. الذي أثار جدلاً واسعًا في لهجته التحذيرية، ومن خلال أسلوب نقدي صارخ.. وخلاصة كتابه: إن العرب يقفون عند ذكر أمجادهم الماضية دون حراك نحو المستقبل، ويتوهمون أنهم يفعلون بينما هم واجمون، ويجذرهم فيه من منهاجهم الفكري وسلوكهم الحياتي الذي يجعلهم تابعين دائمًا لا متبوعين، نائمين على أمجادهم وتراثهم، متناسين أنهم لا بد لهم من صحوة فكرية، تنال عقولهم وهممهم، وتجعلهم في عداد الأمم المتطورة. كما يرصد المآسي التي مر بها العرب بالهزيمة "النكسة" التي تلقاها العرب من إسرائيل، وردة فعلهم إزاءها..
والآن، ونحن نعيش ثورة (التكنولوجيا) الحديثة، التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، هلل المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، واستبشر خيرًا ظنًّا منه أن هذا الظهور البارز لها سيعود بالخير الكثير على كل أبناء الأمة العربية، وسيكون وسيلة تقريب بينهم، وجسرًا لمد علاقات التواصل الثقافي والاجتماعي بين شتى أقطارها، فأقبل عليها إقبالاً منقطع النظير، وصارت تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، واحتلت مكانة مرموقة في فكره، واستحوذت على لب مشاعره، حيثما كان وجوده؛ إذ صارت تمثل بالنسبة له نافذة، يطل منها على العالم بأسره، ويسافر من خلالها إلى كل ربوعه وهو قابع في بيته، ويتعرف منها على مختلف الحضارات المنتشرة عبر المعمورة.. حتى أصبح العرب يعدون أكثرالمستخدمين "ثرثرة" كتابة على الشبكة العنكبوتية.. وقد تدهور مضمون "الكتابات" النقاشات في الوطن العربي إلى حد تنازلي متسارع خطير؛ إذ أصبحت هذه المواقع العربية "العنكبوتية" تنشر كل (ما) هب ودب، بداية من المنتديات الحوارية والمدونات الإلكترونية بشكل كبير، بما فيها الغث والسمين، الصالح والطالح، الجيد والركيك، الملائم وغير الملائم دون تمييز أو تمحيص، فصارت بذلك هذه المنتديات والمدونات تتقارب في المحتوى والمضمون حتى من حيثطابعها في "الهرطقة"، لدرجة جعلت القارئ العربي يشعر بالسآمة من تكرار "الهرطقات" نفسها في أغلبها؛ وهذا ما دفعهم إلى الرحيل إلى عالم التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، وفي هذا المجال بدأ التفكير في حل لمشكل الرتابة والتكرار القاتلَيْن؛ فقاموا بتخصيص مواضيع مادتها الإثارة، عبر "تطبيقات" حاسوبية عدة..منها الطائر المحلق (تويتر).. فأصبحت تظهر لنا "صباح.. مساء" كل يوم (هاشتاقات) ذات "أجندات" مختلفة، وغيرها من (الهاشتاقات) الإقصائية الأخرى، على غرار السياسة الإعلامية التي تتبعها كل دولة عربية على حدة.. وبات كل منهم يغني "يكتب" على ليلاه؟!!..
نحن "العرب" (العاربة، المستعربة والمواطنة)، وبالمقارنة ببقية دول العالم، أصبحنا نعد من أكثرالمستخدمين "ثرثرة كتابية" في برامج وتطبيقات (السوشيال ميديا)، وأصبحت السمة البارزة بين المستخدمين؛ ما جعل الكثير من الشركات العالمية "تعرّب" منتجاتها تسهيلاً لنا لأداء مهمة "الثرثرة" الكتابية بكل يسر وسهولة؟!! وذلك من أجل الربح المادي المحض في زمن التجارة الإلكترونية والإشهار (الإعلان) التسويقي، ضاربة بذلك بكل قيمنا الإسلامية وتقاليدنا العربية عرض الحائط، غير مبالية بالعواقب الوخيمة التي قد تنجر عن ذلك، وتعود على الأمة العربية بالوبال الشديد؛ إذاستهدفت ضرب تاريخ الأمة العربية المجيد؛ إذ إننا لا نسمع من ردود فعل عربية صادقة على ما يجري في وطننا العربي سوى هذا الضجيج المصحوب بالخلافات والنزاعات والتباين في وجهات النظر بين العرب، بينما كان عليهم أن يوحِّدوا الجهود، والعمل على قتل الفتنة، والتصدي لآلة التخريب، وعدم انسلاخهم عن تعاليم دينهم الإسلامي، ومقوماتهم العربية الأصيلة.. وكانت النتيجة أنهم أصبحوا يعيشون في غيبوبة فكرية لدرجة جعلت البعض غارقًا حتى النخاع في المجون، بل مسلوب الإرادة فكريًّا لحد لا يستطيع فيه النهوض، وتدارك الموقف لصد هذا التيار الجارف الذي لا يبقي ولا يذر، وعاجزًا حتى عن إدراك تطلعات أمته التي هي في أمسّ الحاجة إليه في الوقت الراهن، والمشاركة في بعث الحياة في نخوة الغيرة على الدين الإسلامي والعروبة في أعماقه لإرجاع الأمور إلى نصابها؛ لأنه حاليًا - وبكل مرارة وحسرة - يظهر بشكل جلي وواضح من خلال الشبكة العنكبوتية بأن العرب ظاهرة "كتابية" بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟! التي لا تختلف كثيرًا عن الظاهرة "الصوتية"؛ فهي تتوالد مثل الفطر، ولكن هذه المرة على أرصفة وحانات (الإنترنت)، وإلى آخره من وسائل تخصص العرب في استخدامها.. ليبرهنوا للعالم أجمع أنهم فعلاً ظواهر "صوتية" سابقًا، و"كتابية" حاليًا ولاحقًا..(ربما) في "لغة الإشارة"؟!!