شكّل البيان الثلاثي المشترك الذي أعلن اليوم (10 مارس 2023م) من قبل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الصين الشعبية منعطفًا في غاية الأهمية لخدمة سلام المنطقة أولًا، وللخليج العربي بشكل خاص، وللسلام في العالم في إطاره الأشمل.
هذا الحدث المهم الذي جاء استجابةً لمبادرة من فخامة الرئيس شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية، وتتويجًا لجهودها التي تماسكت نتيجة لدعم سعودي قدّم أولوية السلام كما هي عادة المملكة العربية السعودية، وانتهى للتوصل إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، مرتكزًا على مبادئ لطالما احترمتها السعودية، وطالبت إيران بمحاولة ذلك خلال العِقْد الماضي على الأقل، وفي أولوية ذلك احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
كما أن البداية وفقًا للبيان سترتكز على ترتيب تبادل السفراء وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 22/ 1/ 1422هـ، الموافق 17/ 4/ 2001م والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة بتاريخ 2/ 2/ 1419هـ الموافق 27/ 5/ 1998م.
وبلا شك فإن عودة العلاقات بين البلدين ستدعم وتعزز الكثير من الجهود الرامية لغلق إشكاليات عديدة لطالما سعت المملكة العربية السعودية لدعوة الجمهورية الإيرانية لحلحلتها؛ تحقيقًا للسلم والسلام في المنطقة، ولعل عودة العلاقات ستكون ذات تأثير إيجابي مباشر على جوانب؛ أبرزها:
- أمن واستقرار الشرق الأوسط وخصوصًا في ظل التحديات الجيوسياسية والاقتصادية الحالية، وهو ما يستدعي العمل مع جميع الدول لإزالة كل مُسبّبات التوتر والاحتقان وتحقيق الاستقرار لهذه المنطقة الحيوية من العالم.
- التكامل الإيراني مع الجهود السعودية التي كانت وما زالت تؤمن بأهمية الحوار سبيلًا لحل الخلافات على أساس من الاحترام المتبادل والالتزام بحسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية أو التأثير عليها.
- أكد هذا الحدث -ضمنيًا وواقعيًا- على أصالة وجوهرية كل ما طالبت به وتطالب به المملكة، وفي مقدمة ذلك احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
- هذا الحدث الذي توسطت فيه بكين بثقلها وتقاربها مع البلدين لن يخدم فقط أطرافه، بل ويأتي أيضًا في سياق تحقيق أمن واستقرار وازدهار المنطقة ككل؛ وسيكون له انعكاسات إيجابية على شعوب ودول المنطقة.
- أكد الحدث على المصالح المشتركة للجميع وهو حق طبيعي؛ فالمبادرة الصينية المشكورة جاءت بمبادرة من فخامة الرئيس شي جين بينغ، وقد قبلتها قيادة المملكة تقديرًا للجانب الصيني الصديق، كما تعكس في ذات الوقت إدراك الجانب الصيني للأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وممراتها البحرية الاستراتيجية للاقتصاد العالمي، والرغبة في الحفاظ على الأمن والاستقرار فيها؛ إثر تصاعد النشاطات المزعزعة للاستقرار في المنطقة.
من المؤكد أن هذا الحدث الكبير وبشكل خاص يُحسب للمنهجية الجديدة للسياسة السعودية، والتي شهدت تحولًا مختلفًا خصوصًا في 2022م، وهو طبيعي في ظل تمتعها بالمرونة مع المستجدات، وهذا الصلح بين دولتين بحجم هذا التأثير (السعودية وإيران)، وكما يقول الخبراء "سيشكّل ضربة قاصمة للنزاعات المشتعلة في الشرق الأوسط".
وكما هو واضح، سلكت السعودية خطًا سياسيًا طموحًا وجريئًا، واضعةً مصالحها أولوية، وهو حق طبيعي دون التخلي عن مبادئها السلمية ودعم كل القضايا العادلة، كما حافظت على "إمساك العصا من المنتصف" في بناء تحالفاتها وإدارة مصالحها، مرورًا بقطر وتركيا وحاليًا عودة العلاقات مع الجمهورية الإيرانية، من المهم هنا التصفيق بكل قوة لهذه السياسة الحكيمة التي تتماهي مع كل المنعطفات ببراعة تامة، وتتعامل مع الأزمات بعقلانية وهدوء و"حسم"، ودون السماح بالاستغلال والابتزاز والضغوط أيًا كان حجمها ومصدرها.
ردم الثغرات، وسد الفجوات، لا يمكن التعامل معه بالمكابرة أو الحماسة، وكما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تعليق له عندما سئل عن سعيه لتحسين العلاقة مع مصر: "لا توجد خصومة دائمة في عالم السياسة"، وهي عبارة مقتبسة من المقولة الأصلية للسياسي البريطاني الشهير تشرشل: "لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة".
وفي نفس الإطار وربما أكثر "حميمية" ما قاله رئيس مجلس الوزراء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -رعاه الله- بمقولته: "مجرد شجار بين أفراد العائلة"، وفيما يخص إيران تحديدًا فالحكمة والاتزان السعودي لطالما كانا حاضرَيْن، ومن ذلك مقولة ولي العهد في مقابلة صحفية: "إيران دولة جارة، وكل ما نطمح له أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها. نريد أن تكون إيران مزدهرة، لدينا مصالح معها ولديهم مصالح معنا.. يتم العمل لإيجاد حلول للإشكاليات وتجاوزها".
السياسة لا تُكتَب بالعواطف، ولا تُنسَج بالحماسة والخطابة، ولكن تحكمها الحكمة والقوة والحنكة، وهي تصبح أكثر حاجة للاتزان في عالم مضطرب، والحرص على المصالح الوطنية والأمنية بالدرجة الأولى، مما يجعل هذه الخطوات الكبيرة قفزات رائعة للسياسة السعودية والخليجية.
يقول الباحث محمد علوش في تقرير له على منصة "البيت الخليجي للدراسات والنشر"، وتحت عنوان (دول الخليج 2023: استدارة غير مكتملة وسط محيط ملتهب): "سياسيًا، يقارب قادة الدول الخليجية الواقع الدولي كإرهاص لولادة عالم متعدد الأقطاب، لم تعد الولايات المتحدة تلعب فيه دورًا مركزيًا كما كانت منذ الحرب العالمية الثانية، هذا النظام متعدد الأقطاب ليس على مستوى ونسق واحد، بل مختلف التأثير والاتجاهات... سلسلة من الأزمات والتحديات المرتبطة".
ويرى الكاتب أن ما قامت به السياسة السعودية من حراك سياسي جريء مع تلك الدول وبمرونة كبيرة كلها تأتي "في إطار عملية تقييم شرعت فيها -على ما يظهر- جميع الأطراف الفاعلة في دول الخليج، من أجل التعاطي الأمثل لمصالحها مع أغلب الملفات الشائكة".