بحكم أهمية مناصبهم وأدوارهم في قيادة شعوبهم يكاد يتفق أغلب السياسيين على الدبلوماسية والتحفظ والتصريحات التي قد تحتمل أكثر من معنى، غير أن ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله في كل حواراته سواء المرئية أو المقروءة كان دائماً خارج هذا التصنيف مُقدّماً نموذجًا شفافًا غير مسبوق في تقديم الشفافية، والوضوح، وبطريقة مختلفة تماماً عن الأعراف الدبلوماسية.
نهج واضح:
وفي حواره أمس مع صحيفة (أتلانتيك) كان الأمير على نفس نهجه الواضح، وفي هذا السياق تُبرز "سبق" في هذا التقرير أبرز الملامح التي كان فيها الأمير كالعادة حاضراً بإجابات حاصرت الأسئلة وليس العكس كما هو معتاد...
فمن ضمن ما يلفت النظر؛ الحضور الاستباقي للأمير وقدرته الدائمة على القفز فوق الهدف الاستدراجي للسؤال، ومن ذلك عندما سأله محرر "أتلانتيك" عن كون السعودية أصبحت أكثر شبهاً بأمريكا ودبي، غير أن الأمير رفض الذهاب للسياق ومحاولة التبرير مثلا بأنه ليس شبها كاملا، بل نسف مضامين السؤال بالتأكيد على أن السعودية لا تقلد أحدًا، بل وختم الإجابة بتحدي محرر "أتلانتيك" إن كان يستطيع إعطاء مثال على مشروع منسوخ؟!
معتقداتنا هي روحنا
وفي السؤال التالي يربط المحرر التحديث والإصلاحات كأنها تهدف أصلاً لجعل الهوية السعودية الإسلامية أكثر ضعفًا وفي صياغته مضمون واضح أن هناك ضعفًا، وسيكون أكثر، وأن التحديث يستهدف ذلك! هنا جاء رد الأمير اللافت ليرمي الكرة في مرمى المحرر من خلال جعل أمريكا -بلد المحرر- مثالا لمعتقدات وديمقراطية إلخ... مؤكدًا أن السعودية دولة الإسلام ولها ثقافتها القبلية والعربية والسعودية، ومشدداً على أنها لو تخلصت من ذلك فهي ستنهار! ثم يرد على السؤال بسؤال: السؤال ذاته يواجه أمريكا: كيف يمكن للمرء أن يضع الديمقراطية والأسواق الحرة والحرية على المسار السليم؟! ويوضح: "معتقداتنا مهمة ولن نقلل منها فهي روحنا".
تصحيح
وبنظرة عامة على أغلب الأسئلة ستجد أن ولي العهد تبدأ إجابته بتصحيح ضمني للسؤال من خلال إجابة غير متوقعة غالبًا، وتجلى ذلك أكثر في إجابته عن سؤال حول مصطلح (الإسلام المعتدل) فقد اصطاد سموه مغزىً ماكرًا حول السؤال، لذا بدأ أولًا بالتأكيد حول وضع المصطلح، وكيف يتم استغلاله من قبل المتطرفين والإرهابيين، مؤكدًا أننا نرجع لتعاليم الإسلام النقي التي عاش عليها الرسول الكريم والخلفاء الراشدون، وربط ذلك بحياتهم مع المسيحيين واليهود الذي عاشوا في تلك المجتمعات، وكيف تعاملوا معهم باحترام الثقافات والديانات.
المزيد من خطوط النهاية
وفي حين يظن المحرر أنه سيتمكن من فرض إجابة معينة على ولي العهد مستشهدًا بفيديو عرضه عليه الأمير قبل سنوات، إلا أن الأمير يفاجئه بجواب مختلف ومتصل بالسياق تمامًا، وذلك في سياق الإجابة حول النظام الملكي.
وليست هذه المسارات فحسب تؤكد حنكة ولي العهد في الشفافية وتقديمها بأسلوب صريح قد لا يتمكن سياسي آخر من طرحه بنفس الطريقة.. ففي الحديث عن كيف يرى ولي العهد خط النهاية تأتي إجابة لافتة جداً فولي العهد يوضح أنه فعلا لا يرى نهاية خط النهاية ويبهر باستخدام سياق (كل ما عليك القيام به هو الركض والاستمرار بالركض بسرعة أعلى في خلق المزيد من خطوط النهاية...) ماذا يعني ذلك؟! لا خط نهاية لدى مهندس الرؤية السعودية، بل المزيد والمزيد من خلق خطوط النهاية، ولن تتوقف الإصلاحات وخطط النمو.
هذا ليس أمراً نسمعه عادة!
وربما هذه الحنكة الآسرة للأمير دفعت محرر أتلانتيك لإبداء الإعجاب ومنها قوله: (إن معرفتك المتقنة التي تتحدث بها عن الشريعة الإسلامية فريدة حقًا). بل إن تمكن ولي العهد الفريد من كل ما يتحدث عنه هو امتداد لذلك فالمحرر يعود ليقول: (لقد سمعتك تتحدث عن أهمية الحديث المتواتر وهذا المستوى من مناقشة الشريعة الاسلامية ليس أمرًا نسمعه عادة من ولي عهد أو ملك). هذا إطراء مستحق والأمير في غنى عنه أيضًا.
وفي هذه الجزئية كشف الأمير عن خبر عظيم في سياق الأمر، فالسعودية ستنتج توثيقاً للحديث الشريف بالطريقة الصحيحة لذا لا يوجد حديث لمجرد الحديث. هناك واقع استشهادي دائمًا لدى ولي العهد.
وماذا فعلت أمريكا؟!
هذا الحوار أيضاً لم يكشف بل أكد على أن ولي العهد يناقش بالمنطق والعقل والشواهد الحاضرة، وليس لمجرد التصدي لتقوّلات الأجندات الخارجية؛ ففي سؤال المحرر حول قضية خاشقجي -رحمه الله- لم يقفز الأمير مباشرة لمواجهته بحوادث أكثر إيلاما قامت بها أمريكا وغيرها بل أوضح أولاً المنطق، وأن السعودية بلد قانون وقد حاكمت المتسببين. ثم قال: "لقد قُتِل سبعون صحفيًا حول العالم تلك السنة وماذا حدث؟!! يقولها الأمير للمحرر في معناها المبسط "إذا كان الأمر هو تعاطف مع زميل صحفي فهل تعرف أسماء الصحفيين الـ70؟".. ثم يطرح السؤال المضاد: "هل فعلا هذا إحساس بزميل صحفي أم إنه مصمم ضدنا وضدي أنا؟!".
وإن يكن.. لا يهمني!
وأجزم أنه في الوقت الذي اعتقد فيه المحرر أنه سيظفر بنوع من الإجابة التي يتمناها حول علاقة الأمير بالرئيس الأمريكي فإن ذلك لم يحصل، فالأمير قالها وببساطة: "إن هذا لا يهمني".
وصولاً إلى أن أمريكا عليها أن تعرف مصالحها لدى السعودية ولها أن تفكر في ذلك، وأكملها: بالتأكيد أن هناك أشخاصًا آخرين في الشرق سيكونون سعداء جدًا.. وهذا حق يورده ولي العهد أن دولته الأسرع نموًا في العالم لن يُملي عليها أحد مصالحه دون اعتبار مصالحها أولا.
فخاخ الأسئلة:
فخاخ الأسئلة غالبا يلجأ لها الصحفيون العالميون الغربيون، لكن هذا لم ينجح ولا مرة واحدة مع ولي العهد السعودي؛ فعلى سبيل المثال عندما يسأل المحرر عن ارتياح ولي العهد للصين، يستهل ولي العهد إجابته بالإشارة لتاريخية العلاقة مع أمريكا والمصالح المشتركة، مشددا على أن السعودية من أسرع البلدان نموًا في العالم ولديها قدرات كبيرة، وأن الاستثمارات السعودية في الصين أقل بكثير من استثماراتها في أمريكا، ولكنها تنمو بسرعة كبيرة، ويوجه رسالة واضحة: الأمر يعود لكم سواء كنت تريد الفوز بالسعودية أو الخسارة؟
ومرة أخرى يؤكد ولي العهد السعودي أن الرضا الأمريكي ليس مهما في قضايا المرأة؛ لأن السعودية تقوم بذلك من أجل السعوديين وأن من لا يهتم فذلك شأنه.
شجار عائلي
وفيما يعد من الأسئلة الشائكة ربما لدى البعض عند السؤال عن العلاقة مع قطر يجيب الأمير إجابة لا يمكن تطويعها: المسألة ببساطة "شجار بين أفراد العائلة".. والعائلة تظل عائلة.. هذا جواب صعب استغلاله أو تحويره. إن تفويت استغلال الإجابات عن المحاورين هو فن بحد ذاته، فمسائل ينظر لها كصعبة مثل العلاقة مع إيران لا يتردد الأمير في القول -وهذا واقع- من ليس من العائلة فقد يكون جارا لا تستطيع تغييره بحكم الطبيعة الجغرافية لذا لابد من الوصول لموقف يكون جيدا لكلا البلدين.
حتى سؤالك القادم أيضاً..
وعودة لقوة الإجابات ربما يأتي السؤال الذي أجاب فيه ولي العهد عن تقبله للنقد: لو لم أكن قادرًا على التعامل مع النقد لما كنت جالسًا معك اليوم أستمع لهذا السؤال والسؤال السابق والسؤال القادم الذي ستسأله.. خط تحت والسؤال القادم الذي ستسأله (ليس لدينا ما نخفيه).
أما بعض الإجابات فهي لاذعة بحق ويستحقها من يُعدّها: يقول المحرر: سأكون في فندق الريتزكارلتون.. ليأتي رد الأمير: حسنًا على الأقل هو فندق خمس نجوم! الحيرة بلا شك هي أقل ما سيحصل لصاحب السؤال. وفي رد لا يخلو من طرافة وجدية عندما يسأل المحرر ولي العهد عن كيفية اتخاذ ولي عهد لاحقًا وفقًا للتعديل الجديد في نظام هيئة البيعة وكيف سيتخذ القرار؟ يرد الأمير: "ستكون آخر شخص يعلم بشأن ذلك"!