في هذه الحياة أمور كثيرة لا نلقي لها بالاً، ولا نتوقف عندها، ولا ندقق في تعاطينا معها، ولا نعرف قيمة أصحابها إلا حين تجبرنا المواقف المحرجة على ذلك، ولا نعطيهم حقهم، ولا نشعر بقيمتهم إلا حين نفقدهم..!!
ومن هؤلاء الأشخاص الذين لا نعرف قيمتهم الحقيقية في حياتنا أصحاب الانحناءات الشامخة، أو الذين يمثلون "شموخ الانحناء" بكل ما تحمله الكلمة من معنى..!! فهل للانحناء شموخ؟!! وهل يمكن أن يمثل الانحناء شموخًا؟!!
نعم.. نعم.. نعم.. هناك انحناء الشموخ..!! وهناك شموخ للانحناء..!! ولكي ندرك ذلك علينا أن نتخيل معًا اختفاء عمال النظافة من مدينة عربية ما..!! ماذا سيحدث؟ وهل نستطيع العيش فيها؟!! وكيف سيكون ذلك؟
أرأيت، لقد ضجرت وزمجرت وانتفخت أوداجك..!! وشاط بك الغضب من مجرد عرض الفكرة..!!
على رِسْلك أخي.. لا تغضب.. وخذني بجميل حلمك؛ لأننا بحاجة إلى أن نقف بين فينة وأخرى وقفات تأمُّل؛ لنحس بمدى النعم التي أغدق بها علينا الخالق -عز وجل-، ونشعر بقيمة مَن حولنا..!! وكم يمثل وجودهم في حياتنا من أهمية بالغة مهما صغرت مكانتهم عند بعضنا من الجهلة والسذج الذين اختل عندهم ميزان التفاضل، ونسوا أو غفلوا عن قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.. أو فقدوا الإحساس بآدمية الآدمي، وبأنه إنسان، له حقوق مثله مثل سائر بني البشر..!! فأصبحوا يحتقرون أصحاب المهن المتواضعة، ويزدرونهم، متناسين أن الدنيا دوارة، وأن أقدار الله ماضية، وأن الحياة متغيرة، وأن الظروف هي من تضع الشخص أحيانًا في مواضع لا تليق به، وأن كلاً ميسَّر لما خُلق له، وأن لقمة العيش هي التي أجبرت هذا الشخص أو ذاك على العمل في هذه المهنة أو تلك؛ لذلك يجب علينا جميعًا احترامه وتقديره، والتعامل معه بكل احترام تقديرًا لإنسانيته، وعرفانًا بفضله علينا؛ لأنه يمثل حلقة مهمة في هذه الحياة، فإن فُقدت اختل توازنها..!!
ومن هؤلاء الأشخاص الذين لم يعطهم المجتمع العربي حقهم من التقدير، على الرغم من أهميتهم البالغة في حياتنا، عمال النظافة الذين لهم الفضل -بعد الله عز وجل-في الحفاظ على حياتنا، وعلى تمتعنا بها على أكمل وجه.. فلو عدنا لتلك الفرضية التي افترضناها في بداية حديثنا، وتخيلنا أن مدينتنا لا يوجد بها عمال نظافة..!! كيف ستكون حالها..؟!! وهل يمكن أن تكون صالحة للعيش..؟!!
قد يقول قائل: نعم؛ لأننا سنقوم بدورهم..!! فالأمر بسيط جدًّا؛ كل شخص منا يحافظ على نظافة مكانه ومحيطه؛ وبذلك تبقى مدينتنا نظيفة خالية من كل ما يشوبها؛ فأماكن النظافة -أجلكم الله- منتشرة في كل مكان، وما علينا سوى أن نضع المخلفات في الأماكن المخصصة لها.. والناس تمتلك الوعي الكافي لذلك.
وهنا أتساءل: هل بالفعل ذلك سيحدث؟!! وهل الناس تمتلك الوعي الكافي؟!! أم إن الأمر لا يعدو كونه أحلام يقظة..!! وتنظيرًا لا يمت للواقع بصلة..؟!!
ولو نظرنا للأمر بواقعية، وبعيدًا عن الخيال والتنظير، سنجد أن ذلك من رابع المستحيلات، وثامن العجائب؛ لأن أزمتنا أصلاً أزمة فكر، ومشاكلنا سببها قلة الوعي..!! فلا يمكن لنا أن نتخيل مدينة عربية بلا هؤلاء الجنود المجهولين الذين لهم الفضل -بعد الله عز وجل- في المحافظة على نظافة مدننا، وعلى تنعمنا بالصحة والعافية.. والذين انحنوا بكل شموخ لنبقى شامخين ولا ننحني..!! فلولا هذه الانحناءة الشامخة منهم لاضطررنا إلى أن ننحني كي نحافظ على نظافة مدننا.. فكل شيء نرميه بلا مبالاة، وبكل قلة ذوق..!! وبلا أدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية..!! تجاه انحناء إنسان ليلتقطه فيحافظ على نظافتنا..؟!!
فمتى سندرك ذلك؟!! ومتى سنعي؟!! ومتى نشعر بقيمة هؤلاء البشر؟!! ومتى سنعاملهم كما يعاملهم غيرنا من الأمم المتحضرة؟!! بل كما أمرنا ديننا الحنيف الذي نسينا أوامره ونواهيه في التعاطي مع هذه القضية في الوقت الذي طبّقها غيرنا ممن لا يدينون به؟!! فكيف طبَّقوها وضيَّعناها؟!! عجبي..!! وهل هي الوحيدة التي أضعناها وطبَّقوها..؟!! وفرطنا بها وحفظوها؟!! أواه.. أواه.. أواه.. كم ضيَّعنا وحفظوا؟!! وأهملنا وطبَّقوا؟!! فسادوا وقادوا.. وأصبحنا في ذيل الركب وانقدنا؟!!
فهل من عودة إلى الحق؟!! وهل من إحساس بالمسؤولية؟!! وهل من وعي وإدراك؟!! وهل من تعامل راقٍ يتوافق مع ما أمرنا به ديننا الحنيف مع هذه الفئة من البشر؟!! فنحفظ لهم حقوقهم التي أضاعتها كثير من الشركات التي جلبتهم..!! ونتقي الله -جل جلاله- في تعاملنا معهم، ونعمل وفق ما قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
وهل من وقفة صادقة منا جميعًا لنقول لهم من الأعماق: شكرًا.. ونترجم ذلك واقعًا ملموسًا، ونبعدهم عن هذا الانحناء، ونبقيهم شامخين باحترامنا لهم، وتقديرنا لفضلهم، ونُشعرهم بأن عملهم يمثل بالفعل شموخ الانحناء..؟!!