اختلاط المشاعر مسألة تضع الإنسان في موقف يصعب عليه التفكير في تصرفاته خلاله؛ فيقع ضحية للحيرة، والقلق، والشد، والجذب، وتزدحم الأسئلة في رأسه؛ كيف يتصرف؟ ماذا يقدِّم؟ وماذا يؤخِّر؟!! يُقْدم أم يُحجم؟ يتحدَّث أم يصمت؟
ويختلف الناس في التعاطي مع هذه الأمور، كلٌّ وفكره وثقافته؛ فبعضهم يحسن التصرف، وآخر تأخذه غياهب الحيرة بعيدًا، وثالث يعتصم بحبل الكلام، ورابع يؤثر الصمت؛ فيعطل وظيفة اللسان؛ ليترك العنان للغة العيون لتشي بموقفه، وتعبِّر عما.. يدور بخلده، والعيون تسعفه أحيانًا، وتخذله أخرى!!
ليلة الخميس الماضي عايشتُ هذه المشاعر، ومررتُ بهذه الحيرة، ورأيتُها في عيون الحضور، وتمثلتْ أمامي واقعًا ملموسًا، تجسَّد في مواقف حضور أمسية فارس مسابقة أمير الشعراء الشاعر الدكتور سلطان السبهان؛ فمن حضر هذه الأمسية الرائعة يعرف حقيقة ما أقول، ويلمس مَواطن الحيرة التي لمستُها، ويدرك تمامًا تلك المشاعر التي عايشتها، وعايشها بنفسه.
والحيرة، والدهشة، والذهول من هول المفاجأة التي تمثلت في قلة الحضور، على الرغم من توافر كل عناصر الجذب في هذه الأمسية الراقية؛ فالشاعر فحلٌ في مجاله، متمكن من صنعته، عذب في مفرداته، مرهف الحس، مذهل في صوره وأخيلته، فيلسوف في قصائد الفلسفة، والفكر، بحر هادر في قصائده الوطنية.
ورغم ذلك كان الحضور لا يتجاوز العشرات، أيعقل ذلك؟!!! أمسية شعرية، فارسها رفع عَلَم البلاد خفاقًا في محفل كبير، وبز مئات الشعراء ليحصد لقب "أمير الشعراء"، يكون حضور أمسيته بهذا العدد المخجل؟!!
أواه.. ثم.. أواه على حالنا، وعلى فكرنا، وثقافتنا..!! مسكينة تلك الثقافة التي أصبحت تعاني الأمرّين بعد تبدُّل مفهومها (عند البعض)، وتغيُّر مسارها، وحرفها عن سبيلها الصحيح عند البعض الآخر..!!
مسكينة تلك الثقافة التي امتطى صهوتها من ليس له علاقة بها، بل من ليس لهم فكر أصلاً؛ فجردوها من قِيمها، ورُقيها، وتطورها، وعُمقها التاريخي الضارب في جذور الفكر، والتقدم، والحضارة، وخلعوا عليها ثيابًا غير ثيابها، وألبسوها حلية شوهتها؛ فصارت مطية سهلة لكل مَن هبّ ودبّ..!! ومركبًا سهلاً لكل مَن امتلك مالاً أو جاهًا، ورام الشهرة، والسيطرة على "الفلاشات"، ولا علاقة له بالفكر، والثقافة، ولا تمثل له شيئًا سوى أنها طريق للشهرة؛ فتراه تارة شاعرًا، وتارة أخرى رسامًا، وثالثة كاتبًا، ورابعة مفكرًا.. وخامسة.. وسادسة..،..،.. إلخ!!!! فيتصدر المشهد، ويصبح الآمر الناهي..!!!
وفي تلك الليلة اختلطت لدي مشاعر الفرح، وغصة الأسى، ونوبة الحزن؛ فتملكتني الحيرة؛ أأفرح لتمكُّني من حضور هذه الأمسية الرائعة؟!! أم تخنقني دموع الأسى على حال ثقافتنا، وأدبنا..!!
فقد كنتُ أستعد لهذا الحضور منذ أسبوع كامل، وأحاول التغلب على الظروف التي من الممكن أن تحرمني، وتقف حجر عثرة في طريق تحقيق سعادتي بحضور هذه الأمسية -وهذا حال صديقي الذي يذكِّرني وأذكِّره يوميًّا بموعدها كي لا تفوتنا- التي انتظرناها بفارغ الصبر. وفي الليلة الموعودة كنا نسابق الزمن؛ كي نصل مبكرين إلى المكان؛ علّنا نجد كرسيًّا حتى وإن كان في مكان قَصيّ؛ المهم أن نحضر، فوصلنا قبل البداية بنصف ساعة، وقلوبنا على أكفنا خوفًا من ذهاب الفرصة لعدم وجود مكان فارغ، ولكن الصدمة كادت تُفقدنا وعينا حتى أننا شككنا أننا قد ضللنا الطريق فلم نصل إلى المكان الصحيح؛ ومنبع هذه الصدمة أنه لا يوجد أحد سوى المسؤول عن التنظيم، فقلنا: لعل الأمر لا يعدو كونه سمة دقة الالتزام بالمواعيد، وأن القاعة ستغص بالحضور قبيل انطلاق الأمسية. ومرت الدقائق تلو الدقائق، وقربت البداية، وحضر فارس الأمسية، والحضور ما زال قليلاً جدًّا جدًّا جدًّا.. وانطلقت الأمسية، ولم يتجاوز الحضور العشرات..!!
وهنا أدركتُ مدى ما تعانيه الثقافة من نكران، وما يعتصرها من أسى، وما تقاسيه من مرارة، وما كان سببًا لتلك الدموع التي بللت ثرى الفكر، حتى أصبحت أنهارًا تجري..!! لله أنت أيتها الثقافة؛ فكم كانت دموعك حارقة حين انسكبت من مقلتيك، وجرت حتى حفرت أخاديد في تلك الخدود الشاحبة من ويلات الزمان..!!
والسؤال هنا: لماذا هذا الفقر المدقع في حضور مثل هذه الأمسيات رغم جمالها، ورُقيها، وعذوبتها، وقدرة شعرائها، وتمكُّنهم، ورُقيهم؟!!!
ومَن المسؤول عن عزوف الجماهير عن حضورها وعن المتابعة للشعر الفصيح؟ هل هم الشعراء؟ أم الأندية الأدبية؟ أم الجامعات؟ أم المدارس؟ أم وسائل الإعلام؟ أم إن ذائقة الناس تنازلت عن مكانتها، وانحدرت من علوها؟
وإلى متى سيبقى هذا النكران؟!! وهل سيطول الهجر؟!! وهل ستمسح دموع ثقافتنا؟!! أم ستبقى طويلاً؟!! وهل سيقيض الله لها مَن يمسحها؟!!
إلى ذلك الحين نبقى في خانة الانتظار؛ نرقب ما يحدث، ونعتصر ألمًا لتلك الحال..!! ونردد "دموع الثقافة" إلى متى؟!!