في عام 2015م اتصل بي أحد مديري المؤسسات، وطلبني في اجتماع خاص بيننا، وعندما ذهبت له استمر الحوار بيننا لساعة تقريبًا، ثم قال: لدي ملاحظة عليك. قلت: تفضل. قال: أنت مهتم بالجانب الإعلامي اهتمامًا كبيرًا، وهذه ملاحظة عليك. صُدمت حينها من الدهشة والغرابة من هذه الملاحظة. قلت: لو كان هناك بائع خضراوات، وفي الوقت نفسه يكتب بخط جميل "خطاط"، واستفاد من هذه المهارة لتطوير عمله، هل هي ملاحظة عليه؟ قال: لا. قلت: لو بائع الخضراوات هذا استثمر وقت فراغه في تطوير نفسه أكثر في مهارة الخط، أو استثمر وقته بعد انتهاء عمله وفي أوقات إجازته لتطوير نفسه في مهارة الخط، أو تطوير غيره، هل هذه ملاحظه عليه؟ قال: لا. قلت: لو بائع الخضراوات كان مميزًا في عمله الأساسي، ولم نجد عليه ملاحظة، هل اهتمامه بنفسه بمهارة الخط ملاحظة عليه؟ وقتها سكت وهو مبتسم. فشاركته الابتسامة حينها.
مرت الأيام، وبعد مرور سنة ونصف السنة تقريبًا من هذا الموقف اتصل بي الشخص نفسه، وطلبني في أمر إعلامي كبير لمؤسسته. قلت في نفسي: الحمد لله، فعلاً "لا يصح إلا الصحيح".
وقبلها في عام 2013 خرجتُ مع بعض الأصدقاء في أجواء الطائف الربيعية. وأثناء وجبة العشاء كنت أتحدث مع أحدهم (كان مديرًا لإحدى المؤسسات)، واقترحت عليه أن أدير الجانب الإعلامي لمؤسسته تطوعًا. وهو يعلم أن لدي عملاً في مجال آخر. فقال لي المقولة الشهيرة: "صاحب صنعتين كذاب، وصاحب ثلاث صنعات حرامي"، يقولها غير مازح. ثم سكت في وقتها، وقلت له "كما تريد". بعد مرور أكثر من شهر اتصل بي وقال: "أريد أن ألتقيك للحديث في أمر خاص". قابلته، وعرض عليّ أن أدير الجانب الإعلامي في المؤسسة، وبدأ يفاوضني في المبلغ المالي. هممت في نفسي أن أرد عليه وأقول: "وين صاحب صنعتين كذاب والثالثة حرامي!!"، لكني آثرت الصمت.
صحيح أنني أؤمن بالتخصص، وعدم التشتت، إلا أنني - مع ذلك - أرى أن تعدد المواهب في الشخص سمة مهمة، وإيجابية في الوقت نفسه.
مللتُ صدقًا من تسرُّب بعض المقولات التي أعتقد أن استخدامها في بعض المواطن غير صحيح "صاحب صنعتين كذاب، والثالثة حرامي"، أو يقولون: "صاحب بالين كذاب، والثالث منافق"، و"سبع صنايع والبخت ضايع". نؤمن بالتركيز وعدم التشتت، ونؤمن أيضًا بالتخصص، لكن لا تناقض، ولا يمنع أن تكون متعدد المواهب ومتعدد المهارات و"الصنعات".
الآن أصبحت الشركات الكبرى تعتبر المهارات وتنوعها واستثمارها مهارات عملية لا تنظيرًا بحتًا، وهي مقدمة على صاحب الشهادة وضعيف المهارات. نتفق أو نختلف في ذلك، هذا أمر آخر، لكن ينبغي النظر لموضوع تعدد المهارات والفنون، ومن ذلك ما يدندن حوله الآن "مهارات القرن الـ21"، التي من أهمها (مهارات التواصل، المهارات التقنية، مهارات القيادة، مهارات إدارة الذات، مهارات البحث والتفكير، والمهارات الاجتماعية)، أو ما يسمونها المهارات الناعمة.
قلتُ في نفسي ولغيري: أعجبني جدًّا أحدهم يمدح رسامة، وفي الوقت نفسه هي طبيبة؛ إذ قال: "الفن يغذي الروح، والطب يعالجها. جمعتِ الفن بالإنسانية".
ذكروها في غير موطنها، وأصبحت حجة كما يزعمون: "صاحب صنعتين كذاب، والثالثة حرامي"، و"سبع صنايع والبخت ضايع". وأقولها بفخر "صاحب مهارتين فنان، والثالثة مبدع". و"سبع أو عشر صنائع تحترفها أو أكثر فأنت ملهم وفذ ومبدع و... و... ". كفانا تحطيمًا للهمم و"تكسيرًا لمجاديف" قارب يشق طريق الصعاب، بحجج بالية؛ فلكل زمان متطلبات يتطلبها ازدهاره وتقدمه.
راق لي نقاش قديم جدًّا مع صديق عزيز عن جزئية أحد أهم أسباب تأثيرك في الآخرين، قال: تمكُّنك من المهارات. يقول الأمريكي (جيم رون): "شخصيتك ليست شيئًا وُلدت به ولا يمكن تغييره كبصمات الأصابع، شخصيتك هي شيء لم تولد به، وتتحمل المسؤولية كاملة لتشكيلها كما تريد".