لغط كثير، تثيره وسائل التواصل الاجتماعي وناشطوها؛ بسبب الدور الكبير الذي باتت تلعبه في حياتنا، وقدرتها على الوصول إلى شرائح المجتمع كافة دون استئذان، للدرجة التي باتت تنافس فيها الوسائل الإعلامية التقليدية – إن لم تكن قد
تفوَّقت عليها – ولاسيما فيما يتعلق بتكوين الرأي العام، وصناعة رد الفعل، وتحشيد المواقف.
وإن كان الإعلام كمهنة مضبوطًا بضوابط محددة، وتحكمه لوائح وأنظمة قانونية، وهناك مؤسسات أكاديمية تقوم بتدريس قواعده وأصوله، وهيئة تتولى تنظيم المهنة، فإن وسائط التواصل الاجتماعي لا تحظى -للأسف- بأي من ذلك، بل تحولت إلى ما يشبه الحراج المنفلت الذي يعرض فيه كل مَن هب ودب بضاعته.. بل إن الكثيرين يتعمدون بث مقاطع مثيرة للجدل ومخالفة للأنظمة؛ حتى تحظى بأكبر قدر من المشاهدة؛ ومن ثم تزداد نسبة متابعتهم، وترتفع نسبة الأرباح التي يحققونها؛ فقد تحول الأمر إلى بيزنس، المعيار الوحيد فيه هو نسبة المشاهدة، بغض النظر عن جودة المادة المعروضة أو رداءتها.
والدليل على ما سبق هو ما شاهدناه من تجاوزات خلال تفشي جائحة كورونا؛ فعلى الرغم من كل الجهود التي بذلتها الدولة لتطويق الفيروس، ومنع انتشاره، إلا أن كل ذلك لم يكن كافيًا لردع المستهترين الذين بثوا مشاهد لتجمعات مخالفة، أو عدم مبالاتهم بالإجراءات الاحترازية.
وهنالك أيضًا مَن لا يتورعون في نشر مشاهد التفحيط وعكس اتجاه السير، والترويج لمنتجات مقلدة أو سلع مجهولة المصدر وغير مُصرَّح بتداولها، وغير ذلك من المخالفات، بل إنَّ آخر حلقة من ذلك المسلسل السيئ كانت نشر أحدهم مقطعًا مصورًا، تجرأ فيه على أُمّ المؤمنين -رضي الله عنها-.
الخطورة تكمن في أن كثيرًا من فئات المجتمع تتابع ما يبثه أولئك المشاهير، ومن بينهم نسبة كبيرة من الأطفال والشباب، وهؤلاء قد يتأثرون بهم؛ إذ يتابعون أخبارهم وأنشطتهم؛ ومن ثم ربما يحاولون تقليدهم، ومحاكاة ما يفعلون، دون إدراك لحقيقة عواقب أفعالهم.
ومما يؤسف له أنه كان المأمول أن يتحولوا إلى أدوات تثقيف مجتمعي وتنوير وتعليم، وأن يستغلوا تأثيرهم المجتمعي الكبير بصورة مثالية، يدعون فيها للفضيلة واستيعاب المعاني الحقيقية للمواطنة الصالحة، وتسويق صورة المجتمع السعودي بما يليق، لكن معظمهم لم يستطع النظر إلى ما هو أبعد من أرنبة أنفه، واختار التغريد خارج السرب، واتخذ الإثارة منهجًا وسلوكًا! وقد فات على هؤلاء أن الشهرة التزام ومسؤولية.
ولتحري الإنصاف أقول إن هناك آخرين يبذلون الجهد، ويميلون إلى الإبداع والابتكار، وتقديم منتجات تسويقية أو ترفيهية أو ثقافية راقية، يمكن أن تُقدِّم خدمة للمجتمع، ويبذلون قصارى جهودهم للالتزام بالأنظمة، وأثبتوا خلال الفترة الماضية اتساع آفاقهم وما يتمتعون به من وعي، إلا أن الضجيج الصادر عن أصحاب الأوعية الفارغة أعلى صوتًا.
ورغم أن النيابة العامة تبذل جهودًا كبيرة لضبط المنفلتين إلا أن الحل الأمني لا يكفي وحده لعلاج المشكلة؛ فلا بد من التوعية بضرورة التقيد بالمسؤولية المجتمعية، وتنظيم مؤتمرات وندوات مفتوحة للتثقيف بأهمية صيانة الحياة الشخصية للغير، وإصدار ميثاق أخلاقي شبيه بمواثيق الشرف الإعلامية للتقيد بموجِّهاته. كما أن على المجتمع دورًا كبيرًا في لفظ أصحاب الحسابات المخالفة ومقاطعتهم.
ربما يتذرع البعض بالرغبة في تحقيق السبق، أو أنه يمارس حريته الشخصية في بث ما يراه مناسبًا وجاذبًا لمتابعيه، وأن وسائل التواصل في أنحاء العالم كافة تتنافس فيما بينها لتحقيق التميز، وكسب مزيد من المتابعين. ولا شك في ذلك، ولا أحد يدعو بطبيعة الحال إلى تكميم الأفواه ومصادرة الحريات، لكن التنافس لا ينبغي أن يكون في نشر ما يُعتبر تعديًا على حقوق الآخرين، أو تجاوزًا للأنظمة، أو تهديدًا للسلم المجتمعي؛ فالحرية منضبطة بمراعاة الآخرين، وإلا تحولت إلى فوضى قد تقود إلى ما لا تُحمد عقباه.