أعتقد أن المجتمع بات مصاباً بنوع جديد من الفوبيا، إن صحت التسمية، وهي "فوبيا الإنجليزي" عندما يحادث الأهل طفلهم باللغة الإنجليزية تقريباً طوال الوقت، مخافة أن يكبر وهو ضعيف فيها فلا يستطيع الدراسة ولا العمل ولا الاندماج في المجتمع الحديث حسب اعتقادهم، وغاب عن ذهنهم أن يخافوا من أن يكبر بعربية ركيكة.
يكبر الأبناء ويبدأ الاختلاط بالمجتمع؛ فتجد بعضهم قد لا يجيد التفاهم مع الأطفال الآخرين بسهولة؛ بسبب اختلاف اللغة الأم، والمفارقة أنهم قد ولدوا جميعاً من أم عربية وفي دولة عربية.
صارت أصوات العربية المكسرة في الأطفال والمراهقين تزداد أكثر؛ فلا أنسى موقفاً في أحد اللقاءات الاجتماعية عندما سألتُ طفلةً عن اسمها فلم تفهم ما قلته وراحت تركض "للناني" -المربية- لتستفهم منها عن معنى كلامي.
وآخر في محل تجاري في وسط العاصمة لدولة إسلامية عربية سعودية، تسأله والدته عن أي لعبة يريد بقولها:
" which toy أنت تبغى؟! "فلا عربيةً انتهجت ولا إنجليزية استقامت؛ ليرد ابنها برد معوج كما أسلفت هي: "أنا I want this".
عزيزتي الأم..
يا ترى كيف سيتعلم ابنك العربية الطلقة؟
أم ستكونين فخورةً أكثر عندما يلقي خطاباً بعربية واهنة في أحد المحافل؟! أو يستصعب عليه قراءة القائمة العربية لطلبات مطعم مثلاً؟!
أي غربة خلقها هؤلاء الأهالي في أطفالهم وهم في قعر أوطانهم؟!
أي حداثة.. تلك التي استبدلت لغتنا الأم بلغة دخيلة، فصارت العربية مستهجنةً ومكسرة بل ومحتقرة؟!
أي ضعف في الهوية يملكون، عندما يقررون أن يجعلوا حواراتهم مع فلذات أكبادهم بغير لغتهم؟!
أي خوف تملّكهم حتى جعلوا الإنجليزية غايةً عظمى بحد ذاتها، ونسوا أنها مجرد وسيلة للعلم أو العمل ليس إلا؟
فأين هم من وصية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: "تعلموا العربية وعلموها الناس".
ونجد أن الأمر يمتد في العائلة ومن حولها؛ فالجميع يكلم ذلك الطفل الأعجمي المزعوم بالإنجليزية أيضاً؛ مخافة ألا يفهمم فيزداد الطين بلةً، وتصبح القضية علة أيما علة!!
ويعتقد أصحاب "فوبيا الإنجليزي" أن طفلهم سيتعلم العربية بسهولة لأنها لغة أهله ووطنه؛ فهي حوله وحتماً سيلتقطها.
ولكن كيف سيحدث ذلك ولا أحد يحدثه بها أصلاً؟! فلا عائلة ولا مدرسة ولا برامج تخاطبه بها كما ينبغي، ولا عربية فصيحةً إلا ما ندر؛ فإن وُجدت فهي ضعيفة أو مرقعة.
نعم يعتقدون أنه سيلتقطها وتمضي السنون؛ ولكنهم لا يتركون لها في قلبه ولسانه مكانًا يذكر؛ فقد كبر طفلهم واشتد عوده ولم يعرف الطلاقة اللفظية؛ فلا عربيةً قد أتقن، ولا هويةً قد أعلن.
يا سـادة..
هناك أمر يستحق التوضيح..
اللغة ليست مجرد أصوات ومعاني؛ بل هي قالب متكامل من هوية وانتماء ونمو ووجدان، واعتزاز بالعروبة والدين والوطن والثقافة.
لكن -وبكل أسف- قرر أصحاب الحداثة ومُقلّدوهم ممن يعتقدون أن الفخامة كل الفخامة، والتطور كل التطور، أن يتحدث طفلهم الإنجليزية بطلاقة على حساب العربية، ونسوا أن تلك الطلاقة خلّفت وراءها انهيارات في وجدان الطفل وتواصله مع هويته ودينه وعروبته بل حتى سلوكه.
أتفهّم أن شخصاً يعاني من عربية ضعيفة لأنه أمضى في الخارج ثلثي حياته؛ ولكن أن تكون أسرة في بلد عربي دون سابق غربة أو ابتعاث ويجعلون الإنجليزية هي الأساس في حواراتهم مع أبنائهم، عذراً فذلك ليس سوى ضعف في الثقة بذواتهم، أو قلة وعي بمخاطر ما يفعلون.
فلمثلهم أقول: إن الخطورة لا تكمن في الهوية والثقة فقط؛ ولكن النمو الصحي السليم لدماغ طفلكم متعلق بلغته الأم وخصوصاً في السنوات المبكرة الأولى من عمره؛ فذلك يؤثر على نمو الدماغ وتطور مهارات متعددة لديه، وذلك حسب دراسات علمية متعددة أثبتت ذلك.. ويرتبط حتى بنفسيته وعلاقته بالآخرين ونظرته لنفسه وللعالم من حوله.
وإن كان لا يهمكم هذا أو ذاك؛ فأضعف الإيمان اتركوا لطفلكم باباً سهلاً مع القرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين؛ فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام والقرآن واللغة العربية التي تجعل فهم الآيات سهلاً يسيراً بلا مشقة؛ ولكننا بسوء تقديرنا للغتنا العربية سنحرم أطفالنا وأجيالنا ذاك الشرف وتلك المزية.
كم أحترم من عانوا وتعبوا من أجل تأسيس أطفالهم في العربية خلال سنوات غربة كادت أن تخسف بعروبتهم، لولا حرص الأهل وتعزيز لغتهم الأم في نفوس أطفالهم.
وهنا أنوّه بأنني لا أقلل من شأن تعلم الإنجليزية بمهارة عالية وطلاقة؛ بل أشدد على ضرورتها في هذا الزمن، ولكن لا يستدعي الأمر أن تمحى الهوية وأن نخلق جيلاً ركيكاً في المنطق العربي لا يملك من العربية لغة قرآنه وكتاب دينه سوى مفردات قليلة ومصطلحات هزيلة.
فقد سبقهم الكثير ممن تولوا مناصب عليا وحصلوا على أعلى الشهادات من دول أجنبية، وكانت طفولتهم عربية أصيلة، ولم تكن عائقاً لهم؛ بل كانت نقطة قوة فإن تحدثوا بالعربية أو كتبوا بها أبهروا بفصاحتهم وقوة بلاغتهم، فلم تؤثر قوة العربية على اكتساب الإنجليزية؛ بل أكسبت صاحبها قوةً وأصالة واعتزازاً.
أما هذا الجيل الحديث فلا أعلم أي منقلب سينقلب، فلا صهوةً عربية قد امتطى، ولا درب السابقين قد مضى؛ فإن أراد أن يعبر بقوة استعاض بمفرداته الأجنبية فهي الأقرب على لسانه والأحرى في تفصيل بيانه.
إن ما يحصل في الآونة الأخيرة لأَمر يدعو للقلق، أطفال يقضون أكثر يومهم في مدارس أجنبية عالمية ليعودون لمنازلهم فيحاورهم أهاليهم بالإنجليزية، وتضيع العربية أيما ضياع دون مسوغ يقبله العقل والمنطق.
مؤسف كل الأسف هذا النوع من الفوبيا الحديثة؛ فلم أرَ في أي دولة متحضرة هذا النوع؛ بل العكس وجدت، لديهم فوبيا فقدان اللغة الأم؛ فلا يساومون في لغتهم مهما كان الثمن، وفي نفس الوقت يتعلم أطفالهم لغات شتى دون أن تكون لغتهم الأساس هي الضحية.
الخلاصة:
أيتها الأم الغالية
وأيها الأب الفاضل
وأيها المربي الحكيم
حواراتك مع طفلك يجب أن تكون كلها عربية، ودع الإنجليزية لمعلمها أو مصادرها الأخرى، أما أنت فكن مصدر الأمان للغتنا الأم ولطفلك الذي يبحث عن الأمان حتى في اللغة، ولا تكن مصدر صدمة للطفل؛ فقد يسبب تغييرك فجأة للغة التي تخاطب طفلك بها منذ ولادته صدمةً تؤدي لمشاكل متعددة كالتأتأة مثلاً.
ولا ضير أن الإنجليزية باتت لغة العلم في عصرنا هذا ولغة العمل في بعض المؤسسات والشركات، وكان لزاماً من باب الحاجة أن نعد أطفالنا لمواكبة هذا التغير "فمن تعلم لغة قوم أمن مكرهم"؛ ولكن دون أن يمس ذلك شعرة واحدة من لغتهم الأساس وهويتهم العربية؛ فاللغات الأخرى يأتي تعلمها بعد إتقان اللغة الأم حتى ينشأ سليم الوجدان قوي الأساس.
أيها الأهالي الخائفون على أطفالكم
سددوا وقاربوا.. ولا تمحوا الأساس من أجل التحضر المدني الحديث؛ فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا تعلموا رطانة الأعاجم"؛ فقد كره الحديث بها لغير حاجة.
وختاماً.. أعتقد أن الفوبيا الحقيقية هي فوبيا ضياع العربية.