
واصلت ندوة "المنهج الأخلاقي وتعزيز التعايش السلمي" التي تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، بالتعاون مع جامعة ويلز، في القاعة الكبرى التابعة للمجلس البلدي لمدينة كارديف في مقاطعة ويلز في المملكة المتحدة؛ فعالياتها بعقد جلسات وحِلَق نقاش متعددة قدّم خلالها عدد من الأكاديميين بحوثاً علمية وأوراق عمل حول محاور الندوة.
وخلال جلسات الندوة وحلقات نقاشها، أمس، قدّم عميد معهد تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة الدكتور ياسر بابطين، ورقة عمل بعنوان "المحتوى الثقافي في برامج تعليم اللغة بين تعزيز الانفتاح وتكريس التحيز"، أكد في بدايتها أن تعلم لغة ثانية يعتبر فرصة للانفتاح والتواصل الثقافي؛ لأنه لا يمكن عزل اللغة عن ثقافتها وآدابها، ومن هنا فإن برامج تعليم اللغة تُعزز التبادل المعرفي والتواصل الثقافي بين الشعوب، وبما أن المحتوى الثقافي مزيج من العناصر الإيجابية والسلبية تجاه الثقافات الأخرى؛ فمن الضروري بناء المحتوى الثقافي بعيداً عن إشكالات التحيز والمصادرة والتعميم السلبي، وتوظيفه لتعزيز قيم التسامح والحوار.. من هذا المنطلق تطرح هذه الورقة أهم المعايير التي تحكم المحتوى الثقافي في برامج تعليم اللغات؛ ليكون له دور إيجابي في تعزيز أخلاقيات التعايش السلمي.
وأكد "بابطين" أهمية المحتوى الثقافي في برامج تعليم اللغة في الانفتاح على المجال الثقافي في أن اللغة "وسيلة لصبغ الفرد بالصبغة الاجتماعية" فهي بوابة المجتمع المشرعة التي تستقبل كل راغب في الدخول إن هو بذل جهده وأبدى استعداده؛ فالتلازم الوثيق بين اللغة والثقافة يجعل من المحتوى الثقافي جزءاً لا يتجزأ من الموقف التعليمي الذي يتصل به متعلم اللغة بدافعية وقصد واستمرار، كما أن المحتوى الثقافي "يعالج شعور الغربة الاجتماعية التي يعكسها الأداء اللغوي عند متعلم اللغة؛ وذلك عن طريق إكسابه اللغة من وجهة اجتماعية؛ وهو ما يمكّنه من الدخول إلى المجتمع بثقة وثبات.
ونوّه بأن معايير إعداد المحتوى الثقافي لتعزيز أخلاقيات التعايش السلمي تأتي باعتماد الأسس الأخلاقية معياراً لمعالجة المحتوى الثقافي، وتجنب الإساءة إلى الرموز الدينية أو الوطنية أو الثقافية أو الأسطورية، وتجنب التعميمات والإساءات في التعامل مع الثقافات الأخرى، والالتزام بالموضوعية في التعامل مع التنوع والاختلاف في تقديم التصورات الثقافية الخاصة بالمجتمع، بعيداً عن ثنائيات الاستقطاب وجدليات النقد والمفاضلة، ودون الحكم على الثقافات الأخرى أو ازدرائها، أو المفاضلة بين عادات الشعوب وموروثاتهم، وتجنب الأفكار العنصرية المتضمنة أحكاماً مبنية على خلفيات تاريخية أو اجتماعية والتي لا تستند إلى منطق أو تسويغ موضوعي، وتقديم الجرعة الثقافية المناسبة كماً وكيفاً لأهداف البرنامج التعليمي.
وواصل قائلاً: "ومن المعايير: تجنّب أو تأجيل القضايا ذات الحساسية بسبب الملابسات المعاصرة، أو الخلفيات الثقافية، أو الاحتكاكات التاريخية بين ثقافة المتعلم وثقافة اللغة التي يتعلمها، وإبراز نماذج الانفتاح والتقبل والتعايش السلمي بين الثقافات، وتأكيد حق الإنسان في الاختيار، ومركزية الحرية في التدين والسلوك بما لا يُضر بالآخرين، وأن يكون هدف المحتوى الثقافي، وتصحيح التصورات المغلوطة، وأن يكون معلم اللغة متمكناً من المعارف الثقافية ومهارات التفكير والحوار، وقابلية المحتوى الثقافي للتعليل والتفسير، ومحاولة التنبؤ بردود أفعال المتعلمين، وصياغة المحتوى بما يناسب ردود الفعل.
بينما قدّم كل من الدكتور "قيري بانت" من جامعة "ويلزترينيتي سان ديفيد"، وربيع مونيك ماير، ورقتيْ عمل عن "الأبعاد التاريخية والمعاصرة للتعايش السلمي".
وفي حلقة النقاش الثانية التي كانت بعنوان "دور العلاقات بين الأديان في التعايش السلمي" تَحَدّث كل من الدكتور إدوارد كيسلر من معهد وولف، وكاتريونا روبرستون عضو الملتقى الإسلامي المسيحي.
وفي ذات الحلقة تَحَدّث مدير إدارة حقوق الإنسان بوزارة الشؤون الإسلامية عضو برنامج التبادل المعرفي الدكتور زيد بن علي الدكان من خلال ورقة عمل عن"إسهامات ودور البرنامج في تعزيز التعايش السلمي"، استهلها بالحديث عن الدور الرائد للمملكة بصفتها قائدة للعالم الإسلامي في نشر قيم التسامح والتعايش، ونبذ كافة أشكال التطرف والعنف التي تهدد المجتمعات قاطبة، وإسهامها في الحوار وتعزيز ذلك داخلياً وخارجياً، من خلال عدد من المؤسسات والهيئات التي أنشأتها؛ ومنها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ومركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الثقافات والديانات المختلفة، ومركز محمد بن نايف للمناصحة، وحملة السكية، ومركز اعتدال.
وأكد أن التعايش الإيجابي بين أتباع الديانات المختلفة يمر بتحديات كبيرة في عصرنا الحاضر؛ من أهمها الصورة السلبية للآخر في الإعلام خاصة صورة المسلمين؛ لافتاً إلى أهمية هذه المبادرات البنّاءة، وداعياً إلى أن تتضافر الجهود لعقد مثل هذه الندوات التي من شأنها أن تسهم بشكل إيجابي في تعزيز قيم التعايش.
وكان "الدكان" قد استعرض في بداية حديثه، دورَ البرنامج في تعزيز التعايش السلمي، وأنه من البرامج النوعية المتميزة في مجالها الذي تشرف عليه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد؛ مشيراً إلى أن أهدافه تتمثل في إيضاح الصورة الحقيقية للإسلام، وتعزيز التبادل المعرفي بين مختلف الأديان والثقافات، وإبراز دور المملكة في نشر رسالة الإسلام المعتدل، والتعارف الإيجابي مع الثقافات الأخرى، وبناء جسور التفاهم معها، والإسهام الإيجابي في تخفيف التوتر المتصل بالجانب الثقافي والديني، والندوات السنوية، والمشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية، والبناء المعرفي لموقع البرنامج على الشبكة، وإصدار كتيبات تعريفية حول بعض المفاهيم الإسلامية، وفي ذات المحور ألقى المفتي العام للبوسنة سابقاً الدكتور مصطفى سيريتش، كلمته.
وفي حلقة النقاش الثالثة التي كانت بعنوان "أخلاقيات التعايش السلمي.. وجهات نظر من علم التوحيد"، تَحَدّث كل من الدكتور أنقس سلاتر من جامعة ويلز، وخولة حسن، وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود المستشار في برنامج التبادل المعرفي بوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الدكتور عادل بن علي الشدي الذي قدّم ورقة عمل بعنوان "التعايش السلمي من منظور العقيدة الإسلامية".
واستهل "الشدي" ورقته قائلاً: "إن البشرية لم تزل عبر تاريخها تشهد دعوات متباينة فيما تدعو إليه؛ فبعضها يدعو للسلام والتعاون، وبعضها يدعو للصراع والهيمنة والإقصاء، وفي السنوات الأخيرة ظهرت فئات من كل الأديان والثقافات تعمل أعمالاً تنسبها للأديان تصب في دعوات الهيمنة والاقتتال وتنبذ التعايش والتراحم، ولما كانت المعلومة الصحيحة إنما تؤخذ من المصادر الأصيلة ومن أهل الاختصاص؛ كانت مشاركتي بهذه الورقة.
وتَكَوّنت ورقة العمل من مقدمة وستة مطالب؛ المطلب الأول: وحدة الأصل وحتمية الاختلاف، وقال في كلامه عن وحدة الأصل: إن نظرة العقيدة الإسلامية لأصل البشرية يشكل أساساً متيناً وركناً مكيناً لإرساء مبادئ التعايش السلمي بين الناس أجمعين؛ لأن استحضار المساواة بين بني البشر في أصل الخلقة يمنع التعالي بين الأعراق ويدفع للتعامل السمح بينهم، وقد قرر القرآن الكريم وحدة أصل البشرية في أكثر من موضع من ذلك قوله سبحانه: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة}.
أما المسألة الثانية فتناول فيها "الشدي" حتمية الاختلاف؛ فقال: إن من سنن الله الكونية الاختلافَ بين البشر في قدراتهم وميولهم وطباعهم؛ وذلك لحِكَم عظيمة منها احتياج بعضهم لبعض لإقامة نظام العمران، وهذه السنة الكونية عند فهمها الفهم الصحيح تتحول من داع للنزاع والصراع إلى داع للتكامل والاتفاق؛ فكل تؤهله قدراته وميوله لإنجاز أمور يحتاجها غيره فيحتاج لهذا لماله، وهذا لصناعته، وآخر لمقدرة بدنه، ولقد جاءت العقيدة الإسلامية لترسيخ وجود الاختلاف كطبيعة بشرية.
أما المطلب الثاني فطرق فيه "الشدي" دعوة العقيدة الإسلامية للتعارف بين الناس؛ مبيناً أن التعارف مطلب شرعي حث القرآن الكريم عليه قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، لتعارفوا لا لتفترقوا؛ فإن من حكم جعلهم قبائل وشعوباً وجود ما يميزهم ليتعارفوا به؛ بحيث لو قال قائل: إنه من الشعب الفلاني أو القبيلة الفلانية عرفه المخاطب.
وقال في المطلب الثالث الذي عنونه بـ"الدعوة للألفة والإحسان بين الناس"؛ أن عقيدة الإسلام دعت للتعارف بين بني البشر؛ تمهيداً لنشر الألفة والتعايش السمح بينهم؛ فالأصل في علاقة المسلم بغيره هو السلم والوئام والإحسان؛ خلافاً لما يظنه كثير من غير المسلمين ونسبة لا يستهان بها من المسلمين، ومن الأدلة على هذا الأصل قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}؛ فهذه الآية الكريمة تدل على البر بكل من كان على تلك الصفة من مختلف الملل والأديان، والبر أقوى عرى التآلف.
ويواصل "الشدي" في المطلب الرابع من بحثه قائلاً: "إن حاجة الناس في مشارق الأرض ومغاربها بعضهم لبعض تحتّم التعاون بينهم، وقد دعت العقيدة الإسلامية لهذا التعاون بين المسلمين فيما بينهم؛ بل بينهم وبين غير المسلمين، يقول الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}؛ فقد أمر الله رسوله وأتباعه ببذل كل مستطاع لخدمة الآخرين، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتناصر"؛ لافتاً إلى أن المفسرين نصوا على أن التعاون على الخير مطلوب حتى مع المخالفين الذين يصدون المسلمين عن بعض شعائر دينهم، وجاء عن الرسول قوله: (خير الناس أنفعهم للناس)؛ فأطلق في نفع الناس ولم يقيد الخيرية بكون النفع في المسلمين؛ ليكون التعاون في إيصال المعروف للبشر أجمعهم سمة المسلم الحق.
وحمل المطلب الخامس في الورقة عنوان "التحالف لتحقيق القيم المشتركة"، وقال "الشدي": إن العقيدة الإسلامية أولت عنايةً كبيرةً للوفاء بالعهود والمواثيق؛ حتى وإن كانت مع غير المسلمين؛ فقد قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}؛ فأمر تعالى بالوفاء بالعقود مطلقاً، وقال بخصوص العقود مع غير المسلمين: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}.
وعرض في المطلب السادس "أسس التعايش السلمي في ضوء العقيدة الإسلامية"، فقال: لقد أرست العقيدة الإسلامية أسساً قويمة للتعايش السلمي بين الشعوب من خلال جملة من المرتكزات هي: احترام المواطنة، والحرية المسؤولة، والعدل، والبر والمعاملة الحسنة، والتعاون، والرحمة.
وخلص "الشدي" في ورقته للندوة قائلاً: "إن من سنن الله الكونية اختلافُ الناس في الأديان والألوان والألسن وغيرها، ومن يريد تغيير سنن الله فعبثاً يحاول! قال الله تعالى: {فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}، وإن عقيدة الإسلام تمنع الإكراه على الدخول في الإسلام، وتدعو للتعارف بين البشر، وإن الأصل في علاقة المسلم مع غيره هو الألفة والإحسان مع الناس جميعاً ما لم يعتدوا ويقاتلوا المسلمين، وتؤكد العقيدة الإسلامية أن التحالف لإرساء القيم المثلى المشتركة بين الناس طريق شرعي محمود، كما أرست العقيدة الإسلامية أسس التعايش السلمي الضرورية لبنائه واستمراره.