بمنطقية شديدة أغلق بيان النيابة العامة السعودية اليوم الاثنين 23 ديسمبر 2019م كل الطرق على المتاجرين– على اختلاف أهوائهم- سواء نحو مواصلة أهدافهم الابتزازية، أو تلك السياسية، أو غيرها، مثل محاولة تصدير مشاكلهم الداخلية للخارج على حساب الغير.
بيان النيابة العامة السعودية اليوم الذي كشف عن أحكام متدرجة، بدءًا من القصاص، إلى السجن، إلى تبرئة مَن لم تثبت عليهم الإدانة في قضية الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي -رحمه الله-، كشف الكثير من الدلائل، في مقدمتها أن السعودية بلد العدل، وهي قادرة على إدارة ملفاتها، واحترام استقلالية قضائها دون أن ترضخ لأية ضغوطٍ من أيٍّ كان.
طبعًا لنبدأ بما سيقوم المرتزقة السياسيون والمنتفعون بتجاهله، وفي مقدمة ذلك شجاعة المملكة العربية السعودية في إدارة هذا الملف، وشفافيتها العالية.
والثاني أن جلسات المحاكمة فُتحت أمام دبلوماسيين، يمثلون الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وممثلي دول مثل تركيا المثقلة بالملفات السرية.
لا يستطيع أحد أن ينكر أنه كان في إمكان السعودية أن تجري المحاكمة دون أي تمثيل خارجي، وكان بإمكانها تجاهل كل المساومين على القضية، سواء ممن يتبعون دولاً معروفة الأهداف، أو إعلامًا مأجورًا، أو سياسيين يبحثون عن مكاسب سياسية، أو جهات دولية، أو مدعية للإنسانية، أساء ممثلوها لسمعتها أكثر مما أفادوا.
تركيا.. البيت الزجاجي
بالرغم من مُضي أقل من 24 ساعة على نشر البيان إلا أنه من الطبيعي أن تكون هناك الكثير من السيناريوهات التي يتم إعدادها بشكل متسارع لتشويه الشفافية السعودية. وهو أمر لا يقلق بال الأخيرة بأي حال من الأحوال؛ فلغة الابتزاز لا تُجدي، والغايات مكشوفة بتيجان الخزي، ولا يُلتفت لها مهما كُشف عنها في الأيام القادمة.
هناك جانبان مهمان: الأول: ممثلون أتراك، سُمح لهم بحضور جلسات المحاكمة. وهذا شاهد قوي جدًّا، لا يمكن نكرانه في دعم الشفافية السعودية.
ورغم ذلك سنرى لاحقًا المزيد من التشكيك إلى حد الكذب. وهذا وهم "ينظرون"!
الجانب الثاني: ما ذكره بيان النيابة العامة عن إرسال "١٣ إنابة قضائية" إلى تركيا لطلب ما لديهم من أدلة وقرائن تتعلق بالقضية، وعدم ورود سوى إنابة قضائية واحدة فقط حتى صدور الأحكام؛ وهو ما يثبت أن الجهات العدلية السعودية قامت بأقصى ما يمكن لها لتحقيق العدالة مع كل الأطراف قبل إصدار الأحكام.
حسنًا، ما الذي يمنع تركيا من تزويد النيابة العامة السعودية بما يزعمون من أدلة إن صحت؟!
السعودية.. غير ملزمة
الدولة السعودية قائمة على العدل منذ بداية تأسيسها، ولا تتوانى في تطبيق أحكامه على الجميع، الذين هم سواسية في ظل النظام والقانون. وحضور سفراء الدول الكبرى جلسات المحاكمة، ومنظمات حقوقية سعودية، وأبناء المجني عليه، جزءٌ من الشفافية التي تتبعها السلطات القضائية السعودية منذ اليوم الأول.
هذا بجانب أن السعودية كان في إمكانها أن تبرر-وهي غير ملزمة- أن الأخطاء والتجاوزات تحدث في كل دول العالم مهما كانت قوة النظام، ويبقى دور الدولة في معاقبة مرتكبي تلك التجاوزات، واتخاذ أشد الإجراءات لضمان عدم تكرارها.
المؤكد أن السعودية أحبطت بشكل قاطع مساعي المتاجرة بدم المواطن السعودي جمال خاشقجي، وأوفت بوعودها بإجراء محاكمة عادلة للمتهمين في قضية مقتله، بعد أن حاول كثير من الأطراف الإقليمية والدولية استغلالها للإساءة إلى السعودية ودورها المحوري في المنطقة.
تناقضات وغايات
الحديث عن تركيا لكونها الزاعمة بالبحث عن العدالة الدولية، وهي بشهادة جهات دولية رصينة، وبمؤشرات مفزعة، رائدة الاعتقالات، وملفات الفساد، وتبحث عن مخارج أيًّا كانت؛ وهو ما يجعل من الطبيعي تفهُّم ما قالت وما ستقول بعض الأذناب حول التشكيك في العدالة السعودية.
حول ذلك سبق أن كشف تقرير منظمة الشفافية العالمية للعام الماضي (2018) عُمق الفساد في تركيا، وعدم اتخاذ الدولة أي إجراءات حقيقية للتصدي له.
التقرير الذي يصنف 180 دولة في العالم يضع الدنمارك في المركز الأول بوصفها أقل الدول فسادًا، بينما تحتل تركيا المرتبة الـ78؛ إذ يشير إلى أن مستويات الفساد في تركيا في تنامٍ في ظل قمع أردوغان المتواصل لخصومه، وانتهاكه القوانين، وإضعاف استقلالية المؤسسات، وتهميش المؤسسات المسؤولة عن المحاسبة.
ومع تفشي ظاهرة الفساد في مفاصل الدولة التركية لم يكن أمام منظمة الشفافية الدولية غير نقل تركيا من فئة البلدان "الحرة جزئيًّا" إلى فئة "البلدان غير الحرة".
هذا فيما يذهب مؤشر الحرية الاقتصادية إلى أبعد من ذلك؛ إذ رأى أن الوساطة والفساد أصبحتا ركنًا من أركان الحياة اليومية، وأمرًا اعتياديًّا في تركيا.
واحتلت تركيا المركز الـ68 بين 180 دولة شملها التقرير. ومن بين 44 دولة موجودة في المنطقة الأوروبية تراجع مركز تركيا من الـ28 إلى الـ33 في ظل تلك الأوضاع المزرية.
ضرب استقلالية القضاء
تركيا، أو ما تبقى من صورتها نتيجة السياسات الحالية، تعاني فسادًا هائلاً، وخصوصًا خلال السنوات الست الأخيرة؛ إذ يتم أيضًا التدخل في استقلالية القضاء. ومن الأمثلة على ذلك أنه في 17 ديسمبر 2013م أمر المدعيان العامان جلال كارا ومحمد يوزكيج -بتنسيق من المدعي العام الشهير زكريا أوز، الذي سبق أن أشرف على قضية "تنظيم أرجنكون الإرهابي"- بإطلاق عملية كبيرة، أصابت الجميع بالصدمة، أسفرت عن احتجاز 89 شخصًا، من بينهم متنفذون وأبناؤهم، مثل ابن وزير داخلية تلك الفترة معمر جولر، وصالح كاغان جاغلايان، وغيرهم؛ وذلك بتهمة "الرشوة وإساءة استخدام السلطة والاختلاس في المناقصات العامة والتهريب وتبييض الأموال"؛ ليأتي التدخل في عمل القضاء من قِبل أردوغان نفسه - وهو الذي يدعو لتحقيق النزاهة بزعمه في قضية خاشقجي- فاعتبر تلك الحملة تستهدفه، ويتخذ عاجلاً تدابير استثنائية لتبرئة المتهمين، وإفلاتهم من قبضة السلطات الأمنية والقضائية.
وهو أمر علّق عليه ساخرًا مصطفى كاملاك، رئيس حزب السعادة المنحدر من حزب الرفاه: "يقولون لماذا لم تبلغنا النيابة العامة بهذه العمليات؟ أكان ينبغي عليها أن تتصل بالوزير وتقول: (يا سيدي الوزير سنعتقل ابنكم فلا تهرِّبوه من العدالة!)".
اعترافات صريحة
هذا، فيما أصدر النائب العام معمر أكاش بيانًا خطيًّا، أوضح فيه الضغوطات التي مورست بشكل علني على القضاء، وعليه شخصيًّا؛ وذلك من أجل إعاقة التحقيقات في قضية الفساد الثانية، وسحب الملف منه.
هذا فيما تم عزل ألفَي شرطي، طاردوا الفاسدين بحسب تقرير صحيفة "وطن" الموالية للحكومة في 27 ديسمبر 2013م.
وذلك أيضًا جسَّده بوضوح خروج وزير الداخلية أفكان علاء على شاشة قناة تي آر تي(TRT) الرسمية في 29 ديسمبر 2013 معترفًا بتدخل الحكومة في عمل القضاء؛ إذ قال: "يقول البعض إن الحكومة تدخلت في عمل القضاء، وكأن القضاء معصوم من الخطأ، وكل ما يفعله حق!".
من جهته، يقول الباحث السياسي طه على: الرئيس التركي يصر على مواصلة النهج الاستبدادي. ما أوصله إلى المأزق الذي يمر به هو ما يعانيه من مرض "التمركز حول الذات"، أو "تعاظم الأنا"، بعد أن ربط مشروع نهضة تركيا بشخصه. أردوغان يرفض الاعتراف بأن استبداده، وأزمته الاقتصادية، كانا من بين الأسباب المباشرة للمأزق الذي تعيشه تركيا حاليًا، الذي عبّرت عنه الهزيمة النكراء لأردوغان وحزبه "العدالة والتنمية".
المزيد.. التطورات لا تتوقف
ويكشف تقرير في نوفمبر المنصرم عن أبعاد كبيرة لمواجهات بين القضاء التركي، ومحاولاته مواجهة أردوغان وفساد عائلته. وكمثال: فقد قامت محكمة استئنافية بتبرئة زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض كمال كيلتش دار أوغلو من تهم التشهير بأردوغان وأسرته؛ وبالتالي سقط حكم أول درجة الذي قضى بأن يقوم كيلتش دار أوغلو بدفع مبالغ مالية كبيرة كتعويض للرئيس.
يقول جلال تشاليك، المحامي عن كيلتش دار أوغلو: "إن أردوغان قبل نظر القضية أمر بتغيير هيئة المحكمة بكل أعضائها، وتعيين قضاة جدد ممن يؤيدونه. وبعد هذه الإجراءات، التي اعتبرت غير القانونية، صدر قرار بإدانة موكلي".
تركيا التي تقوم بأعمال غير إنسانية في سوريا، وضد الأكراد، هي أيضًا تقود أحدث تدخلاتها في ليبيا؛ إذ يصف رئيس وزراء الحكومة الليبية المؤقتة عبدالله الثني الاتفاقية الموقَّعة بين رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها "لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، وهي وثيقة لبيع ليبيا". مؤكدًا رفض الشعب الليبي هذه الاتفاقية.
هذا فيما يصف الصحفي التركي براق تويغان في تحليله محاولات الترزق من الأزمة بأنها جاءت بسبب رغبة أردوغان في "انتهاز الفرصة ضد أكبر منافسيه في المنطقة، وفي الوقت ذاته تحسين صورته دوليًّا بعد سنوات من الممارسات الاستبدادية للحكومة التركية".