﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾
منذ أول سورة بعد فاتحة الكتاب، وعند أول موضع لذكر كتابه الكريم، في أول آيتين كريمتين يأتي الإعلان الإلهي والتحدي الكبير: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
تحدٍّ كبير لكل مشكك ومرتاب..
أي كتاب هذا الذي يأتي من أول سطر في ثاني صفحاته ليتحدى قارئه بأنه لا ريب فيه؟!
﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾
اعتاد الدعاة والوعاظ و مفسرو الكتاب على القول:
كانت معجزة موسى العصا ليهزم ما تفوّق به الفراعنة من سحر، ومعجزة عيسى الطب وعلاج المرضى لأن قومه برعوا في الطب، ومعجزة محمد القرآن الكريم لأن العرب تميزوا بالفصاحة والبيان.. والقرآن كذلك، ولكن ليست معجزة القرآن محصورة بالفصاحة والبيان، فإن حصرها بذلك تقليل من شأنه وشأن هذا النبي العظيم، بل القرآن معجزة خالدة. محمد لم يرسل لقومه فقط هو رسول للبشرية كلها.. بل هو آخر رسل السماء إلى الأرض بإنسها وجانها، وهذا القرآن كتاب صالح ـ ومصلح ـ لكل زمان ومكان.. «رسالة» موجهة لكل إنسان سواء كان يسكن كوخاً متهالكاً في أدغال إفريقيا أو شقة فاخرة في ناطحة سحاب في مانهاتن!
نظرة قاصرة تلك التي ترى أن القرآن بفصاحته وبيانه ولغته أتى – فقط – ليهزم به محمد فصحاء العرب ويعجزهم!
البشرية في طفولتها الأولى كانت تحتاج إلى معجزات حسيّة..
أشياء عجيبة تراها بعينها:
نوح يأتي معه طوفان مرعب.
إبراهيم ينجو من النار.
سليمان يخاطب الطير ويفهم لغة النمل.
موسى تتحوّل عصاه إلى أفعى ضخمة ومخيفة.
عيسى يصنع تمثالاً لطائر.. ويطير!
تتقدّم الحضارة البشرية، ويتطوّر العقل البشري، ويصل التاريخ الإنساني إلى الربع الأخير في مشواره على هذا الكوكب!.. وتأتي معجزة محمد: «كتاب» يحترم العقل الذي تطوّر كثيراً ويخاطبه بمنطق، وحكمة، وموعظة حسنة.
لن تجد أفعى تسعى بين السطور.. ستجد قانوناً إلهياً عظيماً:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾
لن ترى في كتاب محمد عصا ساحرة..
بل ستقرأ العبارة الساحرة الباهرة.
لن يخرج لك من بين الكلمات مارد من الجان، وهدهد يتحدّث.. بل ستجد المادة الأولى لحقوق الإنسان قبل أن يعرف الإنسان حقوقه:
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
لن يطير التمثال بين صفحات الكتاب.. بل سيطير عقلك من الدهشة لكثرة الحقائق العلمية الموجودة بين صفحاته، والتي أتى بها رجل أمي من جزيرة العرب قبل 1400 سنة.. قبل أن ينتقل العقل البشري من عصور السحر والشعوذة إلى عصر الحقيقة العلمية بقرون طويلة!
ذلك الكتاب لا ريب فيه.. وهو ليس كتاباً علمياً
ولكنك ستجد في صفحاته حقائق كونية، ومعلومات مذهلة ودقيقة تجعل عقلك السليم يقول:
والله إن الرجل الذي أُتِي هذا الكتاب نبي، وأن الذي أرسله هو رب الكون.
وحتى لو وجدوا فيه خطأً علمياً بزعمهم – ولن يجدوا – فإن الزمن سيكشف خطأ العلم وصواب القرآن
هو ليس كتاباً تاريخياً.. ولكنك ستجد فيه الدقة التاريخية التي تصف حاكم مصر في وقت النبي موسى بلقبه «الفرعون»، وفي قصة النبي يوسف ستقرأ هذه الألقابالسياسية: الملك، العزيز، وذلك لاختلاف الدولة وزمن الأحداث… في التوراة - على سبيل المثال - ستحدثك الرواية التوراتية غير الدقيقة عن يوسف وفرعون رغم أنهما في زمنين مختلفين!
والتاريخ في القرآن ليس ماضٍ فقط.. التاريخ: مستقبل!
هو ليس كتاباً أدبياً.. ولكنه سيدهشك بجماله وفصاحته ودقته، ولن تجد فيه كلمة واحدة تقول سأرفعها من مكانها واضع بدلاً منها كلمة أخرى هي أفضل، وأدق، ومناسبة أكثر من الأولى.. لن تجد أبداً!
ذلك الكتاب لا ريب فيه..
العلم سيحدثك عن الديناصورات، ومخلوقات مذهلة انقرضت ولم ترها..
الأساطير، والكتب القديمة، والحكايات لكثير من الشعوب ستحدثك عن التنانين وأنت لم ترها.
القرآن الكريم مليئ بالأعاجيب، والقصص المدهشة:
عن ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج..
عن أناس ناموا ٣٠٠ سنة في كهف..
عن أقوام بادت بغضب إلهي..
عن طوفان ملأ الأرض في زمن نوح..
عن ملك جيشه من الجن والطيور.
كل ما تظن أنه أسطورة.. حدث ذات يوم!
القرآن يسجلها لك، ويحدثك عنها، ولكنه ليس كتاباً مسلياً يروي لك القصص الغرائبية!
ذلك الكتاب لا ريب فيه..
وَمِمَّا يُروى عن الوليد بن المغيرة وهو من أثرى الأثرياء وأفصح الفصحاء وسيد من سادات قريش أنه اجتمع إليه نفر منهم، وكان ذَا سن فيهم، وقد حضر الموسم.. فقال لهم:
يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به.
قال: بل أنتم فقولوا أسمع.
قالوا: نقول كاهن؟!
قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول مجنون!
قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول شاعر.
قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول ساحر.
قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟!!
قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وماأنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل!!
ثم أضاف: اتركوني أفكر واقدّر الأمر وأرى التهمة المناسبة…
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
ثُمَّ نَظَرَ
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾
ثم قال أبن المغيرة:
إن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بـ «قول» هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.
حتى هذه التهمة ليست تهمة!
أرى أنها مديح إضافي من أبن المغيرة لمحمد وكلامه/ قرآنه..
ما الذي يمتلكه محمد لـ «يسحر» الجموع، ويجعل الناس يتبعونه؟..
يفرِّق المرء عن أبيه، والأخ عن أخيه، والزوج عن زوجه، وأبن العشيرة عن عشيرته وجماعته... أي «سحر» هذا؟!
من هو محمد قبل هذا الأمر.. منذ طفولته وصباه، وشبابه الأول، إلى أن بلغ الأربعين من عمره عند بعثته؟
كانوا يعرفونه بصدقه، ونزاهته، وأمانته، ورجاحة عقله.. وكانوا يصفونه بالصادق الأمين.
ما الذي كان يمتلكه محمد؟!
هل كان يمتلك السلطة والزعامة التي تجعل اتباعه يطمعون بمكاسبها؟!
هل كان يمتلك الثروة التي تغري الفقراء والعبيد؟
هل كان يمتلك القوة العسكرية التي تجعلهم يهابونه ويتبعونه ويخضعون لأفكاره؟!
كان معه «كلمات» رأى أشعر الشعراء وأبلغ الخطباء وأفصح فصحاء العرب أنها لا تشبه بقية الكلمات..
كان معه قرآنٌ كريمٌ حميدٌ مجيدٌ حكيمٌ عزيزٌ..
كان معه الكتاب الذي لا ريب فيه.
أما عتبة بن ربيعة فقد جاء إلى النبي ليفاوضه ويغريه بعدة عروض مقابل ترك هذا الأمر/ الدعوة إلى الإسلام:
"يا ابن أخي..
إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.
وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك.
وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا".
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عروضه المغرية أن قرأ عليه أوائل سورة فصلت، فرجع عتبة إلى قريش بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وقال لهم:
إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش.. أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فو الله ليكونن لـ «قوله» الذي سمعتُ نبأ!
ما قاله عتبة - ومن قبله الوليد - هو اعتراف من أشد الناس عداوة لمحمد وللدين الذي يدعو له.. عاشا وماتا وهما يحاربانه، ويشككان به وبدعوته، ولكن.. يظل «قول» محمد و «الكلمات» التي يحملها لها نورها وتأثيرها في خصومه قبل محبيه.. أما الذين آمنوا بها وبه ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾... ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾
هذا تأثير هذه الكلمات على البشر..
أما الحجر:
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
ذلك الكتاب لا ريب فيه..
ذلك الكتاب معجز ببلاغته وأسلوبه وبيانه وتعبيره.
معجز بتشريعاته، وقوانينه، وأخلاقه.
معجز بـ «التقاطاته» العلمية والجغرافية والطبية.. التي أكدتها العلوم والاكتشافات بعد مئات السنين من نزوله على محمد.
معجز بروايته للماضي، ورؤيته للمستقبل.. وذكره لأحداث لم تحدث، وحدثت!
معجز بدقته التاريخية… وعندما يقول لك ﴿شروه بثمن بخس دراهم معدودة﴾ فتأكد - دون أدنى شك - أنه في ذلك الوقت كان هنالك «عملة» يتم تداولها للبيع والشراء.
معجز بطريقة تسلله إلى النفس البشرية، وحجم تأثيره الهائل بها.. أنظر لأي إنسان يعتنق الإسلام حديثاً، ستجد أن الغالبية العظمى منهم يرتجفون عند الشهادة، ويبكون بحرارة بعدها..
ما الذي يحدث لأرواحهم؟..
كانت ضائعة، ووصلت أخيراً!
ذلك الكتاب لا ريب فيه..
هو كتاب الكتب
هو الإعجاز والإيجاز والإنجاز.
هو روح: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾
هو نور: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾
هو هدى ورحمة: ﴿وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين﴾
هو شفاء: ﴿هو للذين آمنوا هدى وشفاء﴾
هو موعظة: ﴿يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم﴾
هو سعادة: ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾
هو مدهش وعجيب: ﴿فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾
هو عربي: ﴿إنا أنزلناه قرآنا عربيا﴾
هو كما وصفه الرسول الذي أرسل به:
«إن هذا القرآن: طرفه بيد الله.. وطرفه بأيديكم».
فقط تخيّل هذا المشهد، وأنت تمسك به: طرفه بيدك.. وطرفه الآخر بيد خالقك.
هو الحبل الوثيق بينكما الذي لم - ولن - ينقطع.
﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾
ولأن الخالق سبحانه كان يعلم النفس البشرية وغطرستها وغرورها، وأنه سيكون هنالك من خلقه ممن ستصيبهم الريبة والشك، بعد عشرين آية أتت هذه الآية:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
ولم، (ولن تفعلوا) لأن الذي أنزل هذا الكتاب الذي لا ريب فيه على محمد .. يقول له، ولكم:
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾