تناولت الأمثالُ القرآنية حالَ أولئك الذين يكنزون المال ولا يُفرّقون بين حلاله وحرامه، ويُسارعون في لحاقِ "سرابه"، ووصفت من يأكلون الربا بأبشع الأوصاف؛ والتي منها: صرع الشيطان لهم، وإصابتهم بالجنون، وسلب عقولهم، وأنهم موعودون بالنار، عياذًا بالله.
"سبق"، وعبر برنامجها الرمضاني "هدايات قرآنية"، تستضيف طوال الشهر الكريم الباحث الشرعي في الدراسات القرآنية "محمد الذكري"، وتستنبط منه بعضًا من أسرار ومعجزات القرآن الكريم، وتُقدّمها للقارئ عبر سلسلة ومضات يومية لمختارات من بلاغات الإعجاز الإلهي في الأمثال القرآنية.
بدايةً، قال الضيف الرمضاني "الذكري": من المهم أن نُوضّح أولًا معنى الربا، والذي هو في اللغة "الزيادة"، وأما شرعًا فيُقصد بها: "زيادة مخصوصة، في أنواع من المعاوضات، أو في تأخير في العوضين أو أحدهما”. والربا هو كل زيادة مشروطة مقدمًا على رأس المال مقابل الأجل وحده.
وأضاف: باستعراض قول الله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". يُعلِّم الله عباده بتشريع سماوي عظيم فيه خطورة الربا وسوء عاقبة من وقع فيه بالدنيا والآخرة، وضرب هذا المثل الذي يُبيِّن حالهم بعد وقوعهم فيه: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ".
وواصل الباحث الشرعي في الدراسات القرآنية: قال السعدي، رحمه الله: "أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، ويُحتمل أنه لمّا انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفّت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم".
وعن الفوائد التي ذكرها الله في كتابه الكريم وتحذيره من خطورة ذلك، قال "الذكري": حسن بلاغة القرآن في التعليم والتوجيه؛ فبعد أن ذكر النفقة ورغّب فيها ووعد بالزيادة، أردفها بالتحذير من الربا الذي يُظن ظاهرًا أنه زيادة؛ وفي الحقيقة هو طلب سراب يقصده متعاطيه لا ينتهي إلى حد، بالإضافة إلى شناعة الربا وأنه من كبائر الذنوب.
وأتبع: وجاء في التعبير بالأكل دون غيره، كما في قوله تعالى: "الذين يأكلون الربا"؛ قال البقاعي، رحمه الله: "وعبَّر بالأكل عن التناول؛ لأنه أكبر المقاصد وأضرها ويجري من الإنسان مجرى الدم كالشيطان". كما أن من خطورة الربا أنَّ صاحبه موعود بالنار، نسأل الله السلامة والنجاة.
وقال "الباحث" عن خطورة ذلك: من بلاغة القرآن في التحذير من الربا أن نسب الله فعل محقه إليه "يمحق الله الربا"، وأن الإصرار على الربا موجب لغضب الله، وتركه من صفات المؤمنين ومن التقوى: "يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين". وقوله تعالى: "ويربي الصدقات"، بعد قوله: "يمحق الله الربا"؛ البشارة لمن أراد الزيادة بأن الصدقات بابها؛ لما يحصل بها من البركة والتوفيق وزيادة أجر صاحبها عند الله.
وختم "الذكري" حديثه عن الفوائد: نعمة الله أن بيَّن للبشر الحلال والحرام: "وأحلّ الله البيع وحرّم الربا"؛ لأن النفس البشرية تميل لرغباتها عادة، وفي المال خاصة، ومع اختلاف تفكيرهم ورغباتهم وأجناسهم؛ كان الحل الوحيد الصحيح لتوازنهم في تعاملاتهم المالية وغيرها هو التشريع الرباني المتمثل في الإسلام وهديه.
وأضاف في خاتمته: رحمة الله في تشريعه لعباده؛ إذ قال: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله".
وعن أسباب الوقوع في الربا، قال الباحث الشرعي: يأتي في مقدمتها عدم القناعة؛ فمن حُرِمها حُرِم السعادة؛ إذ هي من الحياة الطيبة وأولى خطواتها حسن التدبير، والرضا باليسير، وألا ترى شخصًا يكفيه سيارة بمبلغ خمسين ألف مثلًا، وآخر لا يملك إلا هذه الخمسين ألف ولكن لم يقنع بها فيضع على ظهره ديونًا كثيرة قد يعجز عن سدادها فيضطر للوقوع بالربا أو التعاملات المشبوهة، ولو قنع ابتداءً لما أخاف نفسه بالديون وآثارها. وختم بقوله: كما يأتي عدم التنظيم المالي وثقافة الادخار، فيقع الواحد بتعاملات غير مقتنع بها داخليًّا، وربما دينيًّا، ولكن بسبب سلطان الديون عليه والالتزامات المتراكمة، أقحم نفسه بها، ولو نظّم حاله من قبل لسلم وتعافى في دينه ودنياه.