يصادف الشهر الحالي مرور مائة عام على الولادة الحقيقية للملاحة الجوية؛ ففي شهر مارس من عام 1920م افتُتح مطار "كرويدون" بلندن، حيث البدايات البكر لتشغيل رحلات مجدولة، وما تطلَّبه الأمر من ابتكار أنظمة تحديد المواقع، وأساليب رسم الطرق الجوية، ووضع قواعدها، ومنح المراقبين الجويين سلطة توجيه الطيارين.. وغير ذلك.
كان من بين مرافق مطار كرويدون أول برج مراقبة جوية في تاريخ الطيران، وتكوَّن من بناء مربع الشكل بارتفاع 15 قدمًا، وبنوافذ زجاجية على جدرانه الأربعة.. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الملاحة الجوية بالتطور عبر أزمنة وأماكن ممتدة؛ لتحقق المزيد من الانضباط في سَنّ التشريعات، والمحافظة على معايير دقيقة، تكفل سلامة الحركة الجوية.
وعلى مدى مائة عام أصبحت أبراج المراقبة من المعالم الرئيسية للمطارات. وإذا كانت معظمها ذات تصميم عملي، يفتقد اللمسة الإبداعية، فإن هناك تصاميم برع مهندسوها في إبراز مهاراتهم؛ الأمر الذي جعل مصورة أمريكية، تدعى كارولين روسو، تقوم بتصوير أكثر من 100 برج مراقبة في أكثر من 23 دولة على مدى 9 سنوات (لتوثيق الهندسة المعمارية السوريالية أحيانًا). ومن التصاميم الجميلة على المستوى الإقليمي برج مطار دبي الذي يظهر على شكل سراج، ومحليًّا برج مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة الذي يحاكي رحلة تنطلق من الأرض إلى القمر!
يقول المهندس محمد خلوص في كتابه (تصميم المطارات): "إن أبراج المراقبة تتميز بوضع خاص في معظم قوانين البناء". وأضيف بأن مراعاة الجوانب الجمالية في بيئة صارمة تشغيليًّا يتطلب الكثير من التكاليف.
شخصيًّا، سعدتُ أن أول ثماني سنوات من عملي كانت في برج المراقبة الجوية بمطار الملك خالد الدولي، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بمشاهد لا تتكرر لنهارات الربيع الماطرة، ولحظات الإقلاع أو الهبوط الساحرة، وكذلك إطلالات ليالي الصيف المنعشة؛ إذ تبدو المناطق المحيطة وكأنها قطع من الكريستال اللامع، بينما الجهات مرصعة بوميض ملون لا ينقطع.
تاريخيًّا.. تعتبر السعودية من أولى دول العالم التي أسهمت في تطوير الملاحة الجوية، سواء من ناحية التقنية، أو التدريب والتشغيل والسلامة.. وكم أتمنى لو قامت شركة الملاحة الجوية (بالتنسيق مع هيئة الطيران المدني) بإنشاء متحف للملاحة الجوية على غرار المتاحف العالمية المتخصصة؛ ليكون شاهدًا على مسيرة وطنية زاخرة بالعطاء.
في العقد الأخير ظهر ما يسمى بـ"الأبراج الرقمية"
REMOT AND VIRTUAL TOWER ، وهي تقنية حديثة، توفر إمكانية إدارة الحركة الجوية في مطارات على بُعد مئات الكيلومترات، من خلال أنظمة كاميرات ورادارات خاصة. فهل تمهد الأبراج الرقمية لنقلة أخرى، تختفي معها الأبراج المادية الحالية؟
الإجابة ستكون في مقال لاحق إن شاء الله.