قلق دائم، وإعراض عن التفاعل الإيجابي مع المجتمع، ورغبة في البقاء المستمر تحت دائرة الضوء، وسرعة في الغضب، وأنانية مفرطة وغرور زائد، وعدم القدرة على تحمُّل المسؤولية.. صفات يشترك فيها كثير من الأطفال الذين اعتادوا من عائلاتهم تلبية جميع مطالبهم، وعدم مناقشتهم في تصرفاتهم، وعدم وجود التوجيه اللازم لسلوكياتهم، وتبرير أخطائهم بدلاً من تقويمهم؛ فتكون النتيجة مخالِفة لما يتوقعه الآباء.
هذا النوع من التعامل يُطلِق عليه علماء التربية (التدليل الزائد)، وهو ما يشكل خللاً أساسيًّا في قواعد التربية؛ تكون آثاره السالبة مدمرة على مستقبل الأطفال.
ومع التسليم بأن الوالدين -مهما اختلفت طُرق تربيتهم لأبنائهم- يحرصون على ضمان مستقبل مشرق لأبنائهم إلا أن تلك الغاية تختلف وتتشعب طرق الوصول إليها؛ فالتوازن مطلوب، والتمييز بين الرغبات والاحتياجات هو عاملٌ في غاية الأهمية، فإذا كانت هناك ضرورة لتلبية الاحتياجات بهدف تأمين عناصر النجاح فإن الرغبات تخضع للتقييم وتحديد مدى ضرورتها.
فكم من طفل تسبَّب دلاله الزائد في إفساده، وكم من والد تورط في ديون لتحقيق مطالب أبنائه غير الضرورية، والرغبة في مسايرة المحيطين بهم، دون مراعاة للظروف ومستوى الدخل.
ويخطئ مَن يتصور أن نشوء الأطفال بطريقة سليمة يتطلب توفير جميع مطالبهم، مهما كانت ثانوية وغير ضرورية، بدعوى عدم حرمانهم أو إشعارهم بالنقص أو بأنهم أقل من أقرانهم.. وهذا يعود بدرجة كبيرة إلى محاولة الآباء تعويض النقص الذي عانوه خلال طفولتهم، وعدم تعريض أبنائهم إلى الحرمان والإحساس بالحاجة.
وهناك سبب آخر يشير المختصون إلى وقوفه وراء سعي البعض لاسترضاء أبنائهم، وهو الرغبة في تعويضهم عن ساعات غيابهم لفترات طويلة بسبب العمل أو غيره ظنًّا منهم أن ذلك يُشعرهم بالسعادة، ويُدخل الفرح إلى قلوبهم.. وهم بذلك يتسببون في إفسادهم، وتدني إحساسهم بالمسؤولية، ويحرمهم من امتلاك القدرة على مواجهة متاعب الحياة ومصاعبها، وتعزيز اتكالية الطفل لتحقيق نجاحاته الشخصية.
كما أن هناك جوانب أخرى من الدلال المفرط غير مرتبطة بالجوانب المادية، تتمثل في موافقة الطفل على آرائه كافة، ومحاولة توفير الحماية له في كل الحالات، وتصديقه في جميع المواقف وإن كانت غير صحيحة؛ فتجد الآباء يتخذون مواقف عدائية من الآخرين استرضاء لأبنائهم، اعتقادًا بأن ذلك يقوي شخصيته، فيما يعد هذا النوع من التصرف غير الحكيم تشجيعًا له للتعدي على الآخرين؛ وبذلك يسهمون في تزايد الروح العدوانية في نفوس أبنائهم، وجعلهم أشد جرأة على الآخرين، وأكثر ميلاً لسلب حقوقهم.
ولأننا نحن المسلمين نستلهم منهج الوسطية الذي جاء به المُربي الأعظم للبشرية النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا بد من تحديد جرعات الحنان والتشجيع التي يحتاج إليها الطفل، وفي الوقت ذاته إبداء القدر اللازم من الحسم والصرامة عند الضرورة، وتعليمه كيفية الاستجابة للتوجيهات، وعدم الإفراط في الثناء عليه بما يؤثر سلبًا في شخصيته، وألا نكثر من تضخيم إنجازاته، وأن تكون مكافأته متناسبة مع حجم تجاوبه وحسن تصرفه.
ومن الضروري كذلك مساعدة الطفل وتشجيعه للاعتماد على نفسه، وتحمُّل مسؤولية تصرفاته، وحل المشكلات الخاصة التي تواجهه، مع توفير المساعدة له بشكل مناسب عند الضرورة، وحثه على مشاركة الآخرين لتنمية روح الجماعة في داخله.
كذلك من الأهمية الدخول في نقاشات هادفة، وحوارات بناءة مع الأبناء، على أن تكون تلك النقاشات والحوارات بصورة هادئة بعيدة عن الانفعال والتشنج والأصوات المرتفعة وأسلوب الأوامر المباشرة.
أبناؤنا أمانة في أعناقنا، ومسؤولية كبرى، أمرنا الله بحُسْن أدائها، وهي صناعة للأجيال المقبلة، وحفظ لمستقبل الأمة.. ولتحقيق ذلك الهدف السامي لا ينبغي الاكتفاء فقط بتوفير الماديات، والمسارعة إلى تلبية الاحتياجات؛ فالاهتمام بهم لا يعني الإفراط في تدليلهم، بل إن الواجب الأكثر أهمية هو غرس المفاهيم الصحيحة في أذهانهم، وتزويدهم بالقيم الفاضلة والأخلاق النبيلة، ودفعهم إلى النجاح والتفوق، وتمكينهم من أساليب مواجهة تقلبات الحياة وصروف الدهر التي لا تستقر ولا تسير على وتيرة واحدة.