بين إمام المسجد الحرام الشيخ الدكتور ياسر بن راشد الدوسري في مطلع خطبة الكسوف، أن الله -عز وجل- خلق الليل والنهار، والشمس والقمر؛ لحكم بالغة، وغايات سامية، فقال جل من قائل سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
وأوضح الشيخ ياسر الدوسري أن الله تعالى جعل الشمس والقمر حسبانًا فبهما تعرف الأزمنة والأوقات، فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ويعرف بها مدد ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر، وتناوبهما واختلافها؛ لما عرف ذلك عامة الناس، واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس، بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا).
واردف: السراج الوهاج هي الشمس؛ فنبه بالسراج على النعمة المتمثلة في نورها، الذي صار ضرورة للخلق أجمعين، وأشار بالوهاج الذي فيه الحرارة على حرارتها، وما فيها من المصالح، فالله عز وجل سخر الشمس والقمر؛ أي ذللها بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماماً للمنافع.
وأضاف: مع هذا التسخير جعلت الشمس آية باهرة تدل عل عظم خالقها المستحق للإفراد بالعبادة، وتنبيها للغافلين العابدين لها دون خالقها؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
أيها المؤمنون: ومع اعتياد المرء ورؤيته لطلوع الشمس وبقاءها لساعات، وتقلبه في هذه النعم التي ألفها، فمع طول العهد فإن العبد ينسى هذه النعمة، فيغفل ويطغى، فيأتي التنبيه الرباني من الخالق عز في علاه:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
وبين الدوسري أن التخويف من الرحمن الرحيم قد يأتي بسلب تلك النعمة لسويعات قليلة؛ ليرى الناس عظم المشقة حين يفقدون العطايا وتزول عنهم النعم، وليس الخبر كالمعاينة، قال تعالى: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) (الإسراء: ٥٩).
قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما شاء من آية؛ لعلهم يعتبرون، أو يذكرون، أو يرجعون.
والآيات التي جعلها الله تخويفا لعباده:
١ - إما سماوية: ككسوف الشمس، وخسوف القمر، والرعد، والبرق، والصواعق، وما يجري مجرى ذلك.
٢ - وإما أرضية كالزلازل، والخسف، والفيضانات وغيرها.
٣- وقد تكون لا سماوية ولا أرضية: كالرياح العواصف، وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من الرياح السموم.
وقال: إننا اليوم نشهد ظاهرة كونية جعلها الشارع الحكيم مناطًا لعبادة شرعية عظيمة، ألا وهي كسوف الشمس.
ولسنا نعالج التعليل العلمي لهذه الظاهرة الكونية، فتلك أسباب ربانية بيد خالقها سبحانه وتعالى، وإنما نحن مطالبون بحال ومقال؛ كسلوك شرعي حين وقوع هذه الظاهرة، وحالنا ومقالنا منضبط بهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (الأحزاب: ٢١).
وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
وأشار إمام المسجد الحرام إلى أن الشمس كسفت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقام فزعًا مسرعًا يجر رداءه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: فزع النبي صل الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس، فأخذ درعًا حتى أدرك بردائه. رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خسفت الشمس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد،
وأمر أن ينادى في الناس بأن الصلاة جامعة، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نودي إن الصلاة جامعة. رواه البخاري .
فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة طويلة القراءة والركوع والسجود، كما في الصحيحين.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، في تلك الصلاة الجنة والنار، وهم أن يأخذ عنقودًا من الجنة ويريهم إياه، قال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة، فتناولت عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر منظرًا كاليوم قط افظع.
ورأى بعض عذاب أهل النار، فرأى: امرأة تعذب في هرة، ورأى عمرًا بن مالك بن لحي يجر أمعاءه في النار، وكان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، كما في الصحيحين.
ثم خطبهم خطبة بليغة بعد الصلاة قال فيها صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد، ولا لحياته، ولكن الله يرسلها، يخوف بها عباده». رواه مسلم.
وجاء في حديث عائشة رضى الله عنها، وكان مما قال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده او تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا».
وفي رواية: ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر، وأمرهم عند حصول الكسوف بالتزام العبادة.
فأوصاهم صلى الله عليه وسلم بالفزع إلى الصلاة؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري: «فإذا رأيتموهما، فافزعوا إلى الصلاة».
وأن يلزموا الصلاة حتى تنجلي؛ كما في حديث جابر رضي الله عنهما في صحيح مسلم: "فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي".
وفعل الجلاء لا يكون إلا لأمر عظيم قد زال، وغمة أظلت فكشفت، فتكون صلاة الكسوف صلاة رهبة، كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة.
وأوصاهم صل الله عليه وسلم: بالتكبير، والدعاء، والصدقة، واجتناب المعاصي؛ كما في صحيح مسلم: «فإذا رأيتموها فكبروا، وادعوا الله وصلوا وتصدقوا».
وأوصاهم بالذكر والاستغفار، كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعا قال: «فإذا رأيتم منها شيئًا، فافزعوا إلى ذكره، ودعائه، واستغفاره».
وتابع: أيها المؤمنون؛ لقد حدث ذلكم الكسوف متوافقًا مع موت إبراهيم ولد النبي صل الله عليه و سلم؛ فتناقل البعض أن السبب هو موت إبراهيم؛ فصحح لهم النبي صل الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد الخاطئ؛ فلقد روى البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس عل عهد رسول الله صل الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" .
وهذا التنبيه منه صلى الله عليه وسلم إنما هو لحماية جناب التوحيد من الاعتقادات الباطلة، والتصورات الفاسدة، وفيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها، وينحلوا عنها عللاً توافق الأهواء، كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم.
وقال: عباد الله: إن ما مضى من النصوص والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدل بمجموعها على ما ينبغي أن يكون عليه العبد من التقلب بين أنواع العبادات وألوان القربات حال حدوث ظاهرة الكسوف أو الخسوف، وقد ملأ قلبه بكمال الخوف منه سبحانه وتعالى، مع كمال الرجاء بزوال الغمة وكشف الكربة.
واختتم موصيًا المصلين: اتقوا الله عباد الله واجتنبوا المعاصي والذنوب والآثام، وبادروا بالتوبة والاستغفار، ولازموا الذكر والتكبير والصدقة والدعاء، وتعرضوا لنفحات ربكم في الجهر والإسرار، كما أوصاكم نبينا وحبيبنا سيد المخبتين والأخيار عليه الصلاة والسلام.