الذي عايش الأجداد قبل 70 عامًا، وتعرَّف على استعدادهم لشهر رمضان المبارك، يتضح له الفارق الكبير بين ما نحن فيه اليوم من اهتمام بالسلع الاستهلاكية، والسعي المحموم خلف المأكولات والحملات الدعائية، والسهر بالليل والنوم بالنهار.. واهتمام الأجداد بالتخفيف من أعمالهم الشاقة؛ للتقوي على الصيام والقيام دون أي اهتمام بالمأكل والمشرب في الشهر الفضيل.
وتفصيلاً، تستعرض "سبق" شيئًا من الذكريات، وجانبًا من استعدادات جيل الأجداد لشهر رمضان، وأهم ما يقدمونه في وجبتَي السحور والفطور، وعمل المرأة في رمضان.
كان جيل الآباء والأجداد عند الاستعداد لرمضان لا يفكرون في شراء السلع والسلال الغذائية وتتبُّع الحملات المحمومة في شراء ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات؛ إذ كانوا يفكرون في شيء آخر مختلف تمامًا عن المواد الغذائية؛ فتفكيرهم انحصر في إعداد خطة بموجبها يتفرغون في شهر رمضان للعبادة، وهذه الخطة تجعلهم في رمضان ليس لديهم ارتباطات كثيرة ولا أعمال شاقة؛ فيحاولون توفير مصروفهم للنفقة على أسرهم خلال شهر رمضان؛ للتخفيف من الأعمال الشاقة، والتفرغ للعبادة.
ولم يكن في الماضي وظائف ومرتبات تصرف في نهاية كل شهر، ومصدر رزقهم في الغالب كل يوم بحسب مردود العمل الذي يقوم به الفرد، فكان أغلبهم يحسب حساب قلة الأعمال في شهر رمضان، برغبة من العمال أنفسهم؛ فتفرغهم للعبادة أولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال التوفير في الأشهر السابقة، فمن يتوقف عن العمل يومًا قد لا يجد مصروفا لذلك اليوم، ولكن متى ما صار لديهم بعض الرصيد المدخر فإنهم والحالة تلك في خيار من أمرهم للتخفيف من العمل في شهر الصيام والقيام.
وكانوا يقومون بتحديد ساعات العمل وانتقاء الأعمال في رمضان، وجعل الأولوية للأهم، وتأجيل بعض الأعمال التي يمكن تأجيلها إلى ما بعد الشهر، إضافة إلى أنهم ينجزون في شهر شعبان أعمالاً كثيرة يسقطونها من جدول العمل في رمضان؛ لأن فيها مشقة، وتتطلب الجهد البدني الذي قد يُتعبهم وهم صائمون، كحفر الآبار، أو بناء الجدران، أو اقتلاع وركاز النخيل، أو نقل الحصى والأخشاب بعد قطعها، أو إصلاح مجرى سيول.. إلخ.
ولأنهم ينتهزون كل فرصة في شعبان، ويستغلون كل ساعاته، سموا شهر شعبان (القصير)؛ فأيامه تقصر عن إنجاز أعمالهم قبل شهر رمضان.
جيل الأجداد كان مترابطًا أسريًّا ومجتمعيًّا، ويزداد ترابطه في رمضان؛ فتجد الرجال من العائلة الواحدة يجتمعون على الإفطار في مكان واحد، وكذا النساء، بل إن رجال القرية أو الحي الواحد يجتمعون على الإفطار وشرب القهوة في جو من المحبة والألفة والصلة.
وتتعاهد المرأة في رمضان جاراتها بإرسال شيء من الطعام قبل الإفطار مع الصغار، كنوع من الصلة والقربة والعبادة.
ولم يكن الأجداد يفكرون غالبًا في المآكل والمشارب والاستهلاك، وإنما يكفيهم ما تعوَّدوا عليه في الأيام السابقة لرمضان، ولا تغيير في شيء من الطعام في الغالب، وإن كان ولا بد من هذا التغيير فإنهم يجعلون وجبة السحور ثقيلة نوعًا ما (مكوناتها من البر كالمرقوق والجريش والقرصان ونحوها)؛ وذلك حتى تمدهم بالطاقة في نهارهم، وأثناء قيامهم بالأعمال التي لا بد من القيام بها، ولا يستطيعون تأجيلها.
أما وجبة الإفطار ففي الغالب كانت تتكون من التمر والماء، وعند البعض يضاف للوجبة إما اللبن أو الماء ممزوج بـ "الأقط"، أو ممزوج بالتمر مع الماء؛ لأن الأغذية الأخرى، سواء مستوردة أو محلية، لم تكن متوافرة في السابق، فمائدة الأجداد الرمضانية قليلة الأصناف، وربما لا يوجد على وجبة الإفطار سوى صنف واحد فقط، هو من عمل الأسرة نفسها.
أما النساء في الماضي في رمضان فكان اهتمامهن يتركز على توفير مؤونة الشهر، وتجهيزها قبل رمضان رغبة في تقليل الجهد أثناء الصوم، مثل توفير دقيق يكفي للشهر؛ فتطحن على الرحى ما يلزمها من بر، وتجرش بالمجرشة ما يكفيها من جريش، إضافة إلى إعداد القرصان الجافة؛ فإنها توفرها قبل رمضان وتحفظها، وما شابه ذلك.
والنساء اللاتي يقمن بخياطة القماش والملابس أو أعمال الخوص ونحوها فإنهن ينهين أعمالهن في الغالب قبل رمضان؛ وكل ذلك من أجل التفرغ لمزيد من العبادة في رمضان.
وعندما يبدأ الصيام تقوم المرأة بإعداد الإفطار والسحور لأهل البيت، مع توفير حظ كبير من وقتها لقراءة القرآن وقيام الليل، ولا تتخلف غالبًا عن صلاة التراويح في المسجد مع جماعة قريتها أو حيها.
السهر لم يكن يعرفه الأجداد إلا أن يكون قيامًا في الليل لقراءة القرآن والنوافل.. فهم يصلون التراويح، ثم ينامون. أما إحياء الليل في جلسات واجتماعات، وتعويض سهر الليل بنوم النهار، فلم يكن عند الجيل السابق؛ إذ ينطلقون لأعمالهم من بعد صلاة الفجر إلى مزارعهم ومتاجرهم، حتى قرب الظهر، ثم يعودون لبيوتهم، وبعضهم يبقى في المَزارع مستظلين بالشجر؛ فذلك أخف عليهم من البيوت التي عادة تخلو من وسائل التبريد.