عاش البشر كل حِقَبهم التاريخية، إلا عقودهم الأخيرة منها، لا يجدون مبررًا لإدراج الطبيعة ضمن اهتماماتهم؛ فقد كانت الطبيعة بمنزلة الحاضر - الغائب في حياتهم، وكان غيابها تعبيرًا عن انتظام عمل أنظمتها، ومن ثَم منحها مواردها لهم في صمت دون أن تفرض نفسها عليهم أو تشعرهم بوجودها، فلما اعتدوا عليها بأنشطتهم الصناعية والتنموية اختلت أنظمتها، وتبدلت معادلة الحاضر - الغائب إلى الحاضر – الحاضر؛ وذلك بعد أن أضحى غيابها الموفر للموارد حضورًا صاخبًا، يعلن عن نفسه في كوارث مناخية متعاقبة، ترد بها على اعتداءاتهم. ويميط تقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، الصادر في 9 أغسطس الماضي، اللثام عن المدى الذي بلغته اعتداءات البشر على الطبيعة، وتأثيراتها المستقبلية، مبينًا أن "نطاق التغيرات المناخية الأخيرة لم يسبق له مثيل منذ آلاف بل مئات الآلاف من السنين، وأن العديد من التغيرات الناجمة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الماضي والمستقبل ستستمر لفترة تتراوح بين مئات وآلاف السنين، ولا يمكن عكس اتجاهها، خاصة التغيرات في المحيطات والصفائح الجليدية ومستوى سطح البحر العالمي".
وفي مشهد معبِّر عما أصبحت تحتله الطبيعة من اهتمام لدى البشر، ودخولها كطرف أصيل في صيغة جديدة، أصبحت تحكم حياتهم، يقترن وجودهم فيها بوقوع الكوارث الناجمة عن التغير المناخي، اجتمع ممثلو نحو 200 دولة، بينهم 120 من قادة العالم؛ للمشاركة في فعاليات اليوم الأول لمؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين بشأن المناخ "كوب 26"، الذي انطلق في مدينة جلاسكو الاسكتلندية قبل زهاء الأسبوعين؛ للتعامل مع أزمة المناخ، وتجنب وقوع كارثة وشيكة، لكن في اليوم نفسه نشرت مجلة "نيتشر كومونيكيشنز" البريطانية دراسة، كشفت عن أن "كمية الجليد البالغة 3.5 تريليون طن، التي ذابت في جزيرة غرينلاند خلال العقد الماضي، أدت إلى ارتفاع غير مسبوق لمنسوب مياه المحيطات والبحار العالمية، بمقدار سنتيمتر واحد، وزادت من مخاطر تعرُّض المجتمعات الساحلية في جميع أنحاء العالم للفيضانات"؛ لتدق الدراسة بذلك أحد أجراس الخطر المحدق بالإنسانية وكوكب الأرض؛ بسبب اختلالات الأنظمة البيئية نتيجة التصاعد المستمر للاحتباس الحراري المؤدِّي للتغير المناخي.
اختلال النظم البيئية
غير أن جرس خطر ذوبان جليد جزيرة غرينلاند لم يكن الوحيد الذي واكب مؤتمر "كوب 26"، الذي اختتم أعماله قبل ثلاثة أيام؛ فبعد يومين من دقه دقَّ مدير برنامج الأغذية العالمي في مدغشقر أدوينو مانغوني جرس خطر آخر "محذرًا من أن المجاعة، التي تشهدها مدغشقر حاليًا؛ إذ يعاني 500 ألف طفل سوء التغذية، هي المجاعة الأولى المتصلة بالتغير المناخي على الأرض، لكنها لن تكون الأخيرة". وكما يلاحَظ، فرغم اختلاف نوع المخاطر الماثل في ذوبان الجليد، ومجاعة مدغشقر، إلا أن وقوعهما بتلك الحدة والضخامة وفداحة الخسائر يدل على أن اختلال الأنظمة البيئية بلغ مستوى متقدمًا، أصبحت فيه الأنظمة البيئية غير قادرة على استيعاب وتحييد الزيادات المستمرة في درجات حرارة الأرض نتيجة التدفقات المليارية لأطنان الغازات المسببة للاحتباس الحراري كل عام، وانتقال الأنظمة البيئية بتأثير ذلك إلى مرحلة الإضرار المباشر والمتصاعد بالبشر والأرض، مع كل إضافة جديدة لغازات الاحتباس الحراري.
ولا تقتصر دلالة خطورة ذوبان جليد جزيرة غرينلاند ومجاعة مدغشقر على الكشف عن مستوى اختلال الأنظمة البيئية فقط، رغم أن الذوبان والمجاعة هما مجرد مثالَيْن فحسب لكوارث مناخية كثيرة، أصبحت تقع متزامنة أو متعاقبة في أنحاء متفرقة من العالم، كحرائق الغابات، وموجات الجفاف، والأعاصير العاتية، والفيضانات المدمرة، وجميعها كوارث تبرهن في دلالة أخرى على أن التغير المناخي بات أشد قضية مصيرية يواجهها البشر في القرن الواحد والعشرين، وأنه يحتاج إلى الشروع الفعلي والفوري في عمل جماعي جاد منسق دوليًّا لمعالجته، ولاسيما أن معالجته ستتطلب وقتًا طويلاً بسبب طول بقاء الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي؛ إذ يمتد بعضها مثل غاز ثاني أكسيد الكربون لمئتي سنة، كما أن المعالجة أصبحت تتطلب التعامل مع كل أبعاد قضية التغير المناخي البيئية والسياسية والاقتصادية؛ فالتغير المناخي أصبح مشكلة سياسية، تثير نزاعات سياسية خطيرة، وتتسبب في عمليات نزوح لملايين البشر تحت وطأة موجات الجفاف والفيضانات المدمرة، وأصبح بالقدر نفسه مشكلة اقتصادية هائلة؛ لأن معالجته تتطلب التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، في الوقت الذي يمثل فيه 80 في المئة من إمدادات الطاقة في العالم، طبقًا لكتاب "تغير المناخ العالمي بين العلم والسياسة" لأندرو دسلر، وإدوارد بارسون، فما أزمة التغير المناخي؟ وكيف نشأت؟ وما أسباب تفاقمها؟ وما الكوارث التي تسببها؟ وما الاتفاقيات الدولية المبرمة للتعامل معها؟ وما متطلبات علاجها؟ وما مدى جدية الدول في حلها؟ ذلك ما يجيب عنه هذا التقرير في طيات حلقاته الثلاث.
الأزمة وجذورها
يعرف المناخ طبقًا لتقرير التقييم الخامس للجنة الدولية للتغيرات المناخية في 2014 بأنه "متوسط حالة الطقس على مدى ثلاثين سنة"، ومناخ الأرض نتاج لخمسة مكونات متفاعلة مع بعضها، هي: الغلاف الجوي، والغلاف المائي، والغلاف الجليدي، والغلاف الصخري، والكائنات الحية. والتغير المناخي طبقًا للأمم المتحدة هو "التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس، وقد تكون التحولات طبيعية أحيانًا فتحدث من خلال التغيرات في الدورة الشمسية، ولكن منذ القرن التاسع عشر أصبحت الأنشطة البشرية هي المسبب الرئيسي لتغير المناخ؛ ويرجع ذلك أساسًا إلى حرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز". فتغير المناخ عبارة عن تحول واختلال للأنظمة الطبيعية الحاكمة لمكونات مناخ الأرض. ويعود الاختلال في نشأته إلى ظاهرة الدفيئة، وهي قبل اختلال نظامها مع بداية الثورة الصناعية عبارة عن ظاهرة طبيعية مفيدة للكائنات الحية، ولاستمرار الحياة على الأرض؛ ففي غيابها ينخفض متوسط درجة حرارة كوكب الأرض إلى 18 درجة تحت الصفر؛ ما ينجم عنه تجمد كل أشكال الحياة.
وتنشأ ظاهرة الدفيئة فيزيائيًّا من خلال امتصاص الغازات الموجودة في الغلاف الجوي للأشعة تحت الحمراء، التي تحبس بدورها الحرارة في الغلاف الجوي للأرض. والغازات هي: ثاني أكسيد الكربون، وبخار الماء، والميثان، والأوزون، وأكسيد النيتروز، والكلوروفلوركربون. وتعمل هذه الغازات في الحالة الطبيعية على تدفئة الغلاف الجوي للأرض، التي تتلقى "إشعاعًا شمسيًّا يتكون من 40 في المئة من الضوء المرئي، و10 في المئة من الأشعة فوق البنفسجية، و50 في المئة من الأشعة تحت الحمراء، ويمتص الغلاف الجوي نصف حجم الإشعاع الشمسي تقريبًا، فيما يصل النصف الآخر إلى الأرض، ويتحول في أغلبيته إلى أشعة تحت حمراء، تمتصها الغازات الدفيئة؛ فترفع درجة حرارة الأرض"، وفقًا لـ"إيف سياما" في كتابه "التغير المناخي".
وفي ظل التبادل المتوازن للطاقة بين الشمس والأرض وغلافها الجوي استمرت ظاهرة الدفيئة مقتصرة في عملها على تدفئة الغلاف الجوي للأرض منذ استقرار النظام المناخي للأرض قبل آلاف السنين، حتى حقبة الثورة الصناعية، التي انطلقت في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، واعتمدت على استبدال الآلات البخارية بالعمل اليدوي؛ ما أدى إلى نهضة صناعية شاملة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، لكن تولد عنها إطلاق تريليونات الأطنان من غاز ثاني أكسد الكربون الناتج من الاعتماد على الوقود الحفري في عمليات التصنيع؛ فنجم عن تلك الكميات الهائلة، التي استمر تراكمها في الغلاف الجوي منذ بداية الثورة الصناعية إلى الوقت الحالي خروج ظاهرة الدفيئة عن نظامها الطبيعي، وتحولها إلى ظاهرة احتباس حراري، أدت إلى رفع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.1 درجة مئوية عما كانت عليه قبل الثورة الصناعية. ويُستنتج مما تقدم أن أزمة التغير المناخي صنيعة البشر، ومولودهم المرعب والمدمر الذي أنجبوه بأنشطتهم الصناعية الضارة بالبيئة.
الاحتباس الحراري
واستمرت ظاهرة الاحتباس الحراري منذ نشأتها في الإضرار التدريجي والمتفاقم بالمناخ دون اعتراف دولي بها. فرغم أنها تعد ظاهرة حديثة، وليست موروثة من حِقَب زمنية موغلة في القدم، ورغم رصد العلماء لها خلال القرن التاسع عشر، وبلورة العالم الكيميائي السويدي سفانت أرينيوس عام 1896 نظرية لا تزال معتمدة في الأوساط العلمية لتفسير ظاهرة الاحتباس الحراري، تقوم على أن تضاعف كمية ثاني أكسيد الكربون في الهواء سيؤدي إلى احترار عالمي، ترتفع خلاله درجة حرارة الأرض بمقدار من 5 إلى 6 درجات مئوية، إلا أن الاعتراف الدولي بظاهرة الاحتباس الحراري جاء متأخرًا، ولم يتبلور بمستوى يتناسب مع خطورة الظاهرة سوى في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية، الذي عُقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في يونيو 1992، وتمخض عن إنشاء "اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ".
ورغم تأخر المجتمع الدولي في الاهتمام بظاهرة الاحتباس الحراري المسبِّبة للتغير المناخي إلا أنه حسم منذ بواكير تحركه موقفه من المصدر الباعث للظاهرة والمولد لها، وأقر بإجماع دوله بأن النشاط البشري غير المتوائم مع أنظمة البيئة هو المصدر الأساسي لظاهرة التغير المناخي؛ فقد نص البند الثاني من المادة الثانية من "الاتفاقية الإطارية" على أن "التغير المناخي يعني تغيرًا في المناخ يُعزى بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى النشاط البشـري، الـذي يفضي إلى تغير في تكوين الغلاف الجوي العالمي، الذي يلاحَظ، إضافة إلى التقلب الطبيعي للمناخ على مدى فترات زمنية متماثلة. وقد أدى اعتراف المجتمع الدولي بمسؤوليته عن ظاهرة الاحتباس الحراري إلى بلورة الاتجاه الصحيح، الذي يتوجب على الدول المضي فيه للحد من الاحتباس الحراري، ومعالجة التغير المناخي، لكن النتائج التي تمخض عنها السير في ذلك الاتجاه -كما سيتضح لاحقًا- ظلت مرهونة بمدى جدية الدول في الالتزام بتنفيذ تعهداتها في تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.