

يشهد قطاع الحرف اليدوية في السعودية مرحلة نوعية من التطور، بعدما تجاوز إطار الهواية والمحافظة التقليدية على التراث، ليصبح قطاعًا اقتصاديًا حيويًا يفتح مساحات واسعة لريادة الأعمال.
وعزز هذا التحول رؤية مؤسسية واضحة، في مقدمتها الدور المتنامي لهيئة التراث، الذي يتجلى بطريقة ملموسة داخل معرض الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية "بنان"، وبات منصة مركزية لعرض الابتكار الحرفي السعودي والعالمي معًا.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن حجم سوق الحرف اليدوية في المملكة يصل إلى نحو (405) ملايين دولار، بينما لا تتجاوز نسبة المنتجات المحلية (%20) فقط من هذا السوق الواسع.
وتعطي هذه الأرقام دلالة واضحة على حجم الفرص المتاحة أمام الحرفيين وروّاد الأعمال للتوسع، وتؤكد أن المجال ما زال يحتاج إلى مزيد من مشاريع الحرف السعودية القادرة على المنافسة، وابتكار منتجات تحمل روح المكان وجودة الصناعة.
وفي أروقة معرض "بنان" تبدو ملامح هذا التحول جلية؛ فهناك حرفيون يعرضون أعمالهم لأول مرة، ومشاريع ناشئة تبحث عن هويتها التجارية، وزوار يقفون عند كل ركن ليكتشفوا قصصًا وابتكارات نمت داخل بيوت وورش صغيرة، ثم تحولت إلى مشاريع اقتصادية حقيقية.
ولم يعد الحرفي مجرد صانع ملتزم بالتقليد، بل صاحب مشروع كامل، يتعامل مع عمله بوصفه قيمة اقتصادية واستثمارية، ويقدّم منتجاته بوعي أكبر بكيفية الجمع بين الأصالة والتجديد.
ويخصص "بنان" مساحة مهمة لروّاد الأعمال، وهي خطوة منحت المشاريع الصغيرة مساحة أوسع للظهور والعرض، وقرّبتهم من المستثمرين والمهتمين، وفتحت أمامهم فرصًا جديدة لبناء علاقات وشراكات.
كثير من المشاركين تحدثوا عن أن وجودهم ضمن هذه المنصة أتاح لهم اختبار منتجاتهم أمام جمهور واسع، ومكّنهم من تطويرها على أسس أكثر مهنية، بما يتناسب مع السوق المحلي والدولي.
ويتقاطع هذا الحراك مع الدور الذي تضطلع به هيئة التراث في بناء منظومة متكاملة لدعم هذا القطاع، من خلال برامج تدريبية واسعة، وتوثيق الحرف، وإتاحة منصات للتسويق والوصول إلى الجمهور.
وتضم منصة "أبدع" التابعة للهيئة آلاف الحرفيين الذين يقدمون منتجات دخلت بالفعل أسواقًا متنوعة، مثل السياحة والضيافة وشركات الطيران، مما يعكس تكاملًا مهمًا بين التراث والصناعة.
وتنعكس هذه النهضة على فئات واسعة من المجتمع، لا سيما النساء اللواتي يمثلن نسبة معتبرة من العاملين في هذا القطاع، وكثير منهن وجدن في "بنان" فرصة للانتقال من الإنتاج المحدود داخل البيوت إلى إطلاق مشاريع متكاملة تحمل هويتهن الإبداعية وقدرتهن على المنافسة.
وتؤكد التجربة التي يقدمها "بنان" هذا العام، أن الحرف اليدوية أصبحت جزءًا من حركة اقتصادية سعودية صاعدة، وليست مجرد عنصر تراثي يُعرض في المناسبات.
فالمعرض يقدّم نموذجًا حيًا للكيفية، التي يمكن أن تمتزج فيها الخبرة التقليدية مع التفكير الريادي المعاصر، ليخرج من هذا التلاقي جيل جديد من الحرفيين القادرين على تحويل مهاراتهم إلى مشاريع مستدامة وقصص نجاح تحمل ملامح المستقبل.
بهذه الروح، تتحول الحرف اليدوية من ممارسة ثقافية إلى صناعة مبتكرة تسير معًا وفق التطور الاقتصادي، وتستند إلى دعم مؤسسي ورؤية وطنية واضحة، وإلى منصات محورية مثل "بنان"، التي تعيد تعريف علاقة المجتمع بحِرفه، وتفتح أبوابًا واسعة أمام روّاد الأعمال ليصنعوا غدهم بأيديهم.