دخل الصحافة من نافذة الأدب، ارتبط اسمه بعكاظ، صحافي حاضر في المشهد منذ البدايات، تجوّل في "مساحات" بلياقته ومهنيته وصرير قلمه، تلك المساحات التي أصبحت فارغة بعد توقفه، اشتهر بعناوينه البرّاقة التي تخطف ابتسامة القارئ، سيرة صحافية ضخمة وعلاقات عديدة وصداقة حميمية مع الحبر والورق، وقدرات عالية في أدوات الكتابة وغياب طويل بعد المرض الذي أقعده على كرسي متحرّك ليودع الشمس والحرف والناس بعد أن أعطى العمل الصحفي كل وقته وساعاته وسنوات طويلة، حتى حان وقت الرحيل في غرة شعبان 1439هـ، ليحل رمضان على أسرته ومحبيه من دونه لأول مرة.
"مصطفى إدريس" .. أسطورة الصحافة السعودية في مرحلة الثمانينيات، مهندس العناوين الساحر، وكاتب المانشيت الأول في تاريخ الصحافة السعودية، أحد الأقلام المملوءة بالثقة والثقافة والمضامين الصحفية التي ينثرها في شرايين المطبخ الصحفي، يعشق تقديس الحرف في محراب الألفاظ المتداخلة، ويعجن كلماته فوق صدر الورق كي ينتزع المانشيت الأقوى والمعبّر في الوضوح والجاذبية والجدية، لا يقلد أحداً ولا يستطيع أحدٌٌ أن يقلده.
ولد "إدريس" في مدينة الطائف عام 1956، كتب القصة القصيرة في بداياته وتألق اسمه في جريدة عكاظ، كان علامة بارزة في الصحافة السعودية خلال الثمانينيات، نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ الأسبق، وعمل في جريدة الوطن خلال تأسيسها، تتلمذ على يده عديد من الصحفيين وله عديد من الكتابات الصحفية والاجتماعية المميزة وهو مكتشف الكاتب والروائي السعودي عبده خال؛ أنهكه المرض قبل سنوات فتوارى عن الأنظار، وفاضت روحه بعد رحلة طويلة مع الألم.
يقول محمد إدريس؛ شقيق الراحل: "كان مصطفى شخصية نادرة جداً وكان يهرب من قضية البروز والمناصب، كان باراً بوالديه ومحباً جدا لأشقائه وشقيقاته، وكان يحرص خلال شهر رمضان على جمعة الأهل؛ بل كان يبدأ بالتحضير لاجتماعهم قبل دخول الشهر ويشرف بنفسه على حضورهم وإذا غاب أحدهم كان يتابع بنفسه ويبحث عن أسباب غيابه ويتصل ويسأل ويطمئن".
ويلقب مصطفى؛ بصانع النجاحات لزملائه وداعي الإلهام لمَن حوله، تخرج على يديه عديد من الكُتاب والمواهب الصحفية، بشهادة الذين عملوا معه في عكاظ وأصبحوا من الأسماء التي تتصدّر المشهدين الثقافي والإعلامي، ومن صفاته برّه بأمه؛ حيث تخلى بعد تقاعده عن راتبه التقاعدي الزهيد لوالدته، وكان يحمل قلباً عطوفاً بأمه يُغبط عليه.
وصفه الكاتب قينان الغامدي؛ في مقال سابق، بأنه "أعظم صحفي سعودي حتى الآن ممّن عرفهم وعمل معهم"، فهو -حسب رأي "قينان"- سر مجد صحيفة عكاظ الذي عاشته منذ عام 1985 حتى عام 2000 وهو العقل المفكر والمنفذ لها شكلاً ومضموناً، وهذه حقيقة موثوقة وليست مجرد توقعات أو قراءات، أما العدد الأسبوعي الذي أحدث ثورة حقيقية في الصحافة السعودية كلها فمصطفى أبوه وأمه ومفصّل ملابسه وصاحب العطر الذي تعطر به".
لا يستطيع تاريخ الصحافة السعودية أن يتجاوز اسماً مهماً مثل مصطفى إدريس؛ الذي تميّز بقدرات استثنائية جعلته أحد أهم صانعي المحتوى والإثارة، ووفق كلام زملائه فهو يمتلك قدرة على تبويب 48 صفحة خلال ساعات ويجعل من الصورة قصة ورواية، واستطاع بقيادته العدد الأسبوعي الذي كان يصدر من عكاظ يوم الإثنين رفع مبيعات الجريدة لتصل إلى 200 ألف نسخة محطماً الأرقام القياسية.
تحدث عدد من زملائه وأصدقائه عن مشواره الحافل وتجربته الثرية بحزن يلامس نوازع النفس، واتفقوا على أنه أفضل مَن يكتب العنوان في العالم العربي، وصانع ألعاب المطبخ الصحفي، لا يركن إلى الجاهز من الأفكار، ولا يقف عند أرصفة السائد النمطي؛ بل يهتم بالشأن العام وينزف بالكتابة، أنه يختصر العبارات المطولة والتفصيلات المعقدة لتجد المطلب والمراد في بضع كلمات وأحرف عدة.
"مصطفى إدريس" .. العنوان الذي لن يغادر الذاكرة، قلب مملوء بالشجن، إنسانية عالية، وعزة نفس فوق التصور، يسامح كل الأشياء من حوله، ويرحل بعيداً حتى لا يتذكر!