ديمومة الحال يرادفها المحال، وتغيير الحال حاصلٌ لا محال، وحياة ابن آدم لها وجهان: وجه يعايش به ما يحب، كالشعور بالفرح بعد الحزن، والغنى بعد الفقر، والعافية بعد المرض، والأمن بعد الخوف.. والآخر عكس ذلك، الذي به تموت الأحلام، كالشعور بالإحباط بعد الشغف، واليأس بعد الأمل، والذل بعد العزة.. وهذا الشعور لا ينجو من جحيمه إلا من زادت حكمته، وقَلَّت سفاهته.
الحكمة والسفاهة صفتان متناقضتان؛ فمَن زادت سفاهته قَلَّت حكمته، ومَن زادت حكمته قَلَّت سفاهته. وهاتان الصفتان توجدان في كل إنسان، كبير أو صغير، رجل أو امرأة، غني أو فقير... إلخ، ولكن نسبة الحكمة عند كبار السن أعلى من نسبتها عند صغار السن. وهناك سبب رئيسي وراء ذلك، هو أن معظمنا لا يعرف حقيقة هذه الدنيا إلا في وقت متأخر من العمر.
مما أراه، الحكمة لها علامتان رئيسيتان، تستقران بهما نفس الإنسان: الأولى هي أن الرزق القليل أفضل من لا شيء. والثانية هي أن الكمال في الدنيا أمرٌ مستحيل.
وأما السفاهة فهي عكس الحكمة تمامًا، ولها أيضًا علامتان رئيسيتان، تضيعان بها النفس: الأولى هي أن الرزق الكثير لا يكفي، ويجب أن يكون أكثر. والثانية هي أن الكمال في الدنيا هدفٌ ويجب تحقيقه.
بالحكمة يستطيع الشخص أن يتصوَّر مستقبل ما يحدث حوله، ويكون هذا التصور باستحضار تجارب الأسلاف؛ ليطبق بقدر المستطاع نجاحاتهم، ويتجنب أخطاءهم، ويفرق بين المهم والأهم.
والحكمة صفة يهبها الله لمَن يشاء من عباده، وقد قال تعالى {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} سورة البقرة الآية 269. لذلك لن تجد الحكمة في كاذب ولا سارق ولا متكبر ولا خائن.. بالمختصر: الحكمة توجد فقط فيمَن تجتمع فيه مكارم الأخلاق.
وأما السفاهة فهي التي تجعل نظرة المرء محبطة ودونية ومادية.. فلن تجد سفيهًا يقوم باستحضار الماضي بصورة صحيحة؛ ليرسم بعض الأهداف لمستقبله ومستقبل الأجيال القادمة، بل دائمًا تجد السفيه يدور بتفكيره في حلقة واحدة، هي حلقة الفشل، وبها يقتل طموح مَن حوله. ولن تجد سفيهًا يتعلم من أخطائه، بل دائمًا هو أول من يرمي ما بيده من رزق وخير ونعمة؛ لكي يخفف على نفسه مطاردة سراب أحلامه الضائعة التي قد يكون هلاكه وهلاك من معه بالوصول إليها.
وهنا أود أن أوضح للجميع أن المبالغة غالبًا ما تكون أساس السفاهة، وأواسط الأمور دائمًا ما تكون من الحكمة. فالمبالغة بالزهد في الدنيا سفاهة، والمبالغة بحب الدنيا سفاهة.. وأما التوسط في الزهد وحب الدنيا فهو من الحكمة؛ لذلك يجب علينا جميعًا أن نعمل ونسعى في هذه الدنيا لطاعة الله أولاً، ومن ثم لتحقيق أهدافنا وطموحاتنا بقدر استطاعتنا، وبدون مبالغة.
وأختم مقالتي بحكمة جميلة، تختصر لنا الكثير، وتُنسب لسيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هي: "اعمل لآخرتك كأنك ستموت غدًا، واعمل لدنياك كأنك ستعيش أبدًا".