العلماء هم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل والأمناء على ميراث النبوة، وهم للناس شموس ساطعة وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها وأنوار هداها، بهم يُحفظ الدين ويصلح حال الأمة.
ويمرّ في حياة الإنسان أشخاص كثر؛ فلا يبقى في ذهنه سوی المتميز منهم خلقاً وعلماً ومنفعة للناس؛ فعدد هؤلاء قليل؛ ولكنهم مؤثرون؛ ليس في حياة المخالطين لهم فحسب؛ بل في حياة الأمة كلها، وإن شئنا عدم المبالغة لقلنا في حياة مجتمعهم وبلادهم.
إن من الصعوبة بمكان أن تكتب الابنة عن أبيها؛ ولكننا في زمن قلّت فيه الكتابة عن المتميزين بحق؛ فأصبح السائد الكتابة عن مشاهير الفن والرياضة ومواقع التواصل مما قد يراه البعض مسايرة للعصر وإن كان خروجاً عن المسار الصحيح؛ ولذا سأكتب بإيجاز عن والدي -شفاه الله- بتجرد تامّ؛ باعتباره عالماً جليلاً وليس والداً أفتخر بكوني ابنته.
فضيلة شيخنا الجليل والعالم الفذ عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد، أحد العلماء الكبار؛ فهو كبير في علمه، وكبير جداً في تواضعه، وكبير في جوده وكرمه، وهو قامة سامقة في خلقه النبيل، ولا أبالغ إذا قلت إنه في كل ذلك من خيرة من عاصرت؛ ذلك أنه قلّ أن يجود الزمان بأمثال هذا الرجل.
لم أسمع منه كلمة نابية، ولا إشارة إلى أحد بسوء؛ بل كان يثني على الجميع، وكان إذا غضب -وهو غالباً لا يغضب لأمر من أمور الدنيا- ينصح برقّة ويعاتب بنبل، بل ويمتدح ويبرز الصفات الكريمة في الشخص المغضوب عليه، ثم يبين له رأي الدين فيما ارتكبه؛ بل كان من الملفت للانتباه أن النظرة منه كافية للإشارة عن مدى عتبه عليه.
وهو عصامي، كافح كثيراً في حياته حتى وصل إلى ذروة المجد؛ ففي حياته محطات كثيرة تدل على عصاميته وهمته العالية؛ فذلك الفتى اليافع خرج دون دعم أو واسطة من بلدته الرس في القصيم، وتنقل في مدن بلادنا من الجنوب إلى الشرق ثم الرياض؛ فكان قاضياً في المندق؛ فرئيساً للمحكمة، ثم رئيساً لمحاكم الأحساء؛ فعضواً في هيئة التمييز بالرياض حين كان الشيخ العالم عبدالعزيز بن ناصر الرشيد رئيساً لها -رحمه الله- ثم رأت القيادة الرشيدة ضرورة الاستفادة من علمه الغزير وخبرته الطويلة وحنكته المتميزة؛ فصَدَر الأمر السامي بنقله إلى مجلس القضاء الأعلى عضواً فيه؛ حيث مكث فيه مدة زادت على عشرين عاماً، وفي كل ذلك كان مشهوداً له بالتقى وحسن الرأي والشجاعة في الحق والنزاهة في الفصل.
وبرغم العلم الغزير للشيخ وكونه فقيهاً كبيراً من فقهاء الأمة البارزين وعلمائها الأجلاء الذين يُشار إليهم بالبنان؛ بل لعله من البقية الباقية من خيرة العلماء المؤثرين، بقية سلفنا الصالح؛ برغم ذلك كله ففضيلته كان أزهد الناس في الظهور أو المشاركة في وسائل الإعلام؛ برغم الإلحاح الشديد الذي يلقاه من بعض العاملين في الشأن الإعلامي المرئي والمسموع لتسجيل حلقات معه تستفيد الأجيال من علمه الغزير؛ ولكن زهده في ذلك رجاء ما عند الله؛ فوّت علينا جميعاً وعلى الأجيال القادمة الاستفادة من هذا العالم الرباني.
قبل سنوات قليلة آثر فضيلته أن يتحلل من قيود العمل الرسمي في مجلس القضاء الأعلى متفرغاً للفتيا في مسجده وفي منزله وعلى الهاتف الذي كان لا يكف عن الرنين؛ فلم يكن أبداً يتأخر عن إجابة سائل، أو مستفتٍ، أو طالب علم يتوق إلى أن ينهل من غزير علمه.
والشيخ هذا العالم الرباني قدوة ومثال عظيم يحتذى لسائر الأجيال في تواضعه وسمته وعبادته وزهده ورقته وكرمه ونصحه للناس؛ فهو صادق في النصح، ورفيق في المشورة النابعة من قلب عامر بالتقوی.
تقدّم شيخنا في السن فأصبح المرض والإرهاق ملازمین له؛ فانقطع في منزله مناجياً ربه، هانئاً بما قدّمه طوال مسيرته الحافلة بأعمال البر والخير والفتيا لإخوانه من المسلمين والإخلاص لعمله ودولته، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.