"احتواء التوتر الإقليمي بالمنطقة" هدف وضعته المملكة نصب عينيها، وسخرت له جهودها، في الآونة الأخيرة، فبات نهجها قبلة اتصالات العالم؛ فمن الأزمة السودانية مرورًا بالحرب في غزة إلى التوترات على الجبهة اللبنانية، أزمات عدة شحذت لها المملكة كل أدوات الدبلوماسية، محاولة استغلال ثقلها السياسي والإقليمي، لإحلال السلام والهدوء على تلك الجبهات المشتعلة في المنطقة، والتي تنذر بتحولها إلى حرب إقليمية.
أسابيع عدة لم تكفّ المملكة فيها عبر وزارة خارجيتها عن إجراء الاتصالات والدخول على كل الخطوط، والسفر عبر الأنهار والمحيطات، محاولة التأكيد على رسائلها الرامية إلى إحلال السلام في الجبهات الساخنة، وتهدئة واحتواء التوترات فيها. آخر تلك الجهود: ذلك اللقاء الذي جمع وزيرَي الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، ونظيره المصري بدر عبدالعاطي، في العاصمة الرياض؛ لبحث الأوضاع الراهنة في قطاع غزة، فضلًا عن العلاقات الثنائية التي تجمع بين البلدين.
لقاء جاء بعد يوم من اتصال جمع الوزير فيصل بن فرحان مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، تناول كذلك تطورات الأوضاع التي تشهدها المنطقة؛ منها جهود إنهاء الحرب على قطاع غزة والمستجدات في السودان واليمن؛ تحركات جاءت بعد أيام من لقاء الأمير فيصل بن فرحان مع وزير الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية في المملكة المتحدة ديفيد لامي، في مقر وزارة الخارجية بلندن، تناول المستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها المستجدات في قطاع غزة.
وكانت المملكة أكدت في بيان لوزارة خارجيتها، دعمها الكامل لجهودهم المتواصلة في سبيل إتمام التوصل إلى وقف إطلاق النار، والمعالجة العاجلة للأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة؛ تأكيد استند إلى مبادرة السلام العربية، التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، والتي تدعو إلى حل الدولتين.
وشددت المملكة على ضرورة وقف النزيف، وإنهاء المعاناة، وحماية المدنيين، والمُضيّ قدمًا في سبيل إنهاء الاحتلال، وتحقيق السلام والأمن، واستعادة الشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة.
الأزمة السودانية كان لها نصيب كذلك من اهتمام المملكة؛ فمع استحواذها على جانب من تلك اللقاءات السابقة، أصدرت المملكة بيانًا قبل أيام رحبت فيه بقرار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، تكليف مفوضية العون الإنساني بفتح معبر أدري لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مدينة الفاشر، في خطوة أشادت بها؛ لما لها من أثر إيجابي يعالج الاحتياجات الإنسانية، وتيسير وصول المساعدات، وتأمين العاملين في المجال.
ليس هذا فحسب، بل إن الوفد السعودي لدى مؤتمر جنيف، أجرى مباحثات مع المبعوث الأممي وممثل الاتحاد الأفريقي لمناقشة تقديم مساعدات طارئة، وفق آلية مشتركة. ولم يكن لبنان بمعزل عن التحركات السعودية؛ فوزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان أعرب في تصريحات صحفية عن قلق المملكة "من خطر توسع الحرب في لبنان"، قائلًا: "لا نرى أي أفق سياسي" إلا أنه قدم بارقة أمل، قائلًا: إن وقف إطلاق النار في غزة قد يساعد على وقف التوتر على الحدود بين الجيش الإسرائيلي ولبنان.
بحسب مراقبين: فإن السعودية تتحرك عبر مستويات عدة محاولة استغلال ثقلها السياسي والدبلوماسي لتحقيق اختراقات عدة، مشيرين إلى أن تحركاتها الأخيرة استهدفت الدول المؤثرة في المشهد الإقليمي والدولي؛ بهدف الضغط على أطراف الأزمات للانصياع لمساعي التهدئة. وبحسب المعهد الدولي للدراسات الإيرانية: فإن المملكة العربية السعودية هي دولة ذات تأثير مركزي وسط تقلُّبات الظروف الجيوسياسية الدولية؛ ما يعني أنها قادرة على التأثير في ملفات عدة، وهو ما ارتكزت عليه وزارة الخارجية في تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة. ويقول المعهد الدولي: إن الأوضاع الحالية أثبتت حنكة القيادة السعودية في قراءة المتغيِّرات والاضطرابات الإقليمية والدولية، مشيرًا إلى أن الرياض اتخذت من تبادل الآراء والتنسيق والتباحث بين الدول طريقًا أمثل لتعزيز السلم والأمن، والابتعاد عن الاستقطابات الدولية الشديدة والتقلُّبات السياسية، والحدّ من حالات التوتُّر العالِقة على المستوى العربي والإقليمي والدولي.
بحسب الدراسة نفسها: فإن القيادة السعودية أثبتت قدرتها على إرساء الأمن والاستقرار، وتحويل المملكة إلى واحة أمان ونموذج تنموي صاعد في الشرق الأوسط؛ ما يعكس قوة المملكة وقوَّة أجهزتها الأمنية في تحقيق الأمن، وحول تأثير ذلك على الوضع في غزة.
وأكدت دراسات أن المملكة لعبت منذ البدايات الأولى للحرب في غزة دورًا دبلوماسيًّا بارزًا في المحافل الدولية، لموقفها الرافض لتحولها إلى حرب إقليمية يخشاها الجميع، بدعوتها المجتمع الدولي إلى ضرورة تحمُّل مسؤولياته في حلّ المشكلة من جذورها عبر منْح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وفي مقدِّمتها إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة. ولطالما أطلقت المملكة دعوات لوقف إطلاق النار الفوري، وإنشاء ممرات إنسانية آمنة، وزيادة تسليم المساعدات إلى قطاع غزة، إضافة إلى أن خطابها الرسمي أصبح شديد الانتقاد للاحتلال الإسرائيلي وممارساته الاستفزازية في غزة.
وبحلول نهاية شهر مارس جمعت حملة جمع التبرعات السعودية لغزة أكثر من 180 مليون دولار أمريكي من حوالي 1.8 مليون مانح. وفي مارس تبرّع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بمبلغ 40 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا". وفي عام 2022 كانت المملكة ثالث أكبر ممول للأونروا بعد الولايات المتحدة وألمانيا بإجمالي 27 مليون دولار أمريكي.
الأزمة السودانية أثبتت كذلك قوة المملكة وكفاءتها في التحكم وإدارة الأزمات على الساحة الإقليمية والدولية بكل احترافية؛ ففي أبريل 2023م قامت المملكة بجهود ملموسة لمساعدة وإجلاء آلاف المواطنين من مختلف دول العالم، خلال تفجُّر الأزمة السودانية.
ومن السودان إلى الحرب الروسية - الأوكرانية وأزمة الطاقة العالمية، مرورًا بالوضع في العراق ومساعي استعادة سوريا إلى الفضاء العربي، إلى الوضع المتأزم في لبنان؛ أمثلة عدة كشفت عن صعود القوة السعودية ودورها الريادي في إدارة الأزمات وتقليل المخاطر التي يمرّ بها العالم، وبسط الأمن والاستقرار؛ مما جعلها شريكًا دوليًّا مهمًّا في شتى المجالات.