أطلقتُ عنان تفكيري في منامي؛ فعادت بي سنوات مضت، فإذا بي جالس فوق تلة صغيرة، أرى من فوقها حياة الأجداد. أمعنت النظر في حياتهم فإذا بالعجب العجاب، وحوادث يشيب منها الشاب: جوع وقتل، سلب ونهب، لا أمن ولا أمان، لا نظام ولا انتظام.. رأيت رؤوسًا متناثرة لأجل ناقة، وجثثًا متراكمة في سبيل لقمة.. هنا سارق لا يُحاسَب، وهناك قاتل لم يُردع. لم يحتمل تفكيري؛ فقام يخطو للبحث عن مكان مريح؛ لينسى فظاعة ما رأى.
نزلتُ من التلة، ومشيت خطوات قليلة، فإذا بذئب يأكل رجلاً مربوطًا بطنه بقطعة قماش، فيها حجر. أيقنتُ أن الرجل مَرَّ بجوع شديد قبل موته؛ فقمتُ بمهاجمة الذئب محاولاً تكريم الجثة، فإذا بصوت خافت يقول لي "دعه دعه يأكل!! فلن تغيِّر ما قد حصل". نظرتُ فإذا بامرأة عليها ثياب بالية، وفي حِجرها فتاة رضيعة.
قلتُ لها: مَن أنتِ؟ ومَن هذه الطفلة؟!
فقالت لي: نحن من تلك القبيلة.
فقلت: ماذا حلَّ بكم؟!
قالت: أغارت علينا القبيلة الفلانية فقتلوا الرجال، وأخذوا كل شيء: مالنا وحلالنا وطعامنا، وحتى ملابسنا؛ فتشتت الناجون منا للصراع من أجل البقاء.
قلت: من هذا الرجل الذي يأكله الذئب؟؟
فقالت: هذا زوجي، ضحى بنفسه كي أعيش أنا وابنتي أطول فترة ممكنة؛ فنحن المتبقون من عائلته، وكما ترى نحن في مكان خالٍ، وأنهكنا الجوع والعطش، وليس فينا جهد لمقاومة هذا الذئب. وأرجوك أن تتركه يأكل زوجي حتى يشبع ليتركنا!
ركضتُ بعيدًا عنهم، وتركتهم خلفي دون عون لعجزي عن مساعدتهم، ولأنني أعلم أن ما هي إلا لحظات قليلة ويأتي قطيع الذئاب الذي أراه من بعيد، ولا أريد أن أسمع أنين الأم وصياح الطفلة والذئاب تلتهمهما، وأنا لا أستطيع مساعدتهما لتغيير واقعهما. فما حدث قد حدث وانتهى، وأنا مجرد طيف عابر، أشاهد فقط حال أسلافنا عن قُرب، ولا أغيِّر منه شيئًا.
بعد عناء طويل، وتحت أشعة شمس حارقة، وجدتُ بئرًا معطَّلة، وعلى أطرافها عظام بالية لجماعة فانية. أمعنت النظر طويلاً فإذا بجثة بيدها رقعة، كُتب عليها "أفنانا الطاعون يا من تقرأ، وأرجو أن تحذِّر أبناء قبيلتنا بأن لا يقتربوا منا".
مناظر محزنة هامت بي في صحراء قاحلة، أبحث فيها عن الماء وأنا حافي القدمَين في نهار حارق، وليل بارد.
وبعد أيام من البحث وجدتُ بئرًا عليها أشخاص كُثر؛ فذهبتُ كي أشرب، فإذا بمجموعة رجال يجلسون بعيدًا عن البئر، وينتظرون كي يُسمح لهم بشرب الماء؛ لأنهم قوم مستضعفون.
قالوا لي: يا هذا!! إلى أين تذهب؟! إنه من المستحيل أن تشرب الآن إن لم تكن من أبناء القبيلة، ويجب عليك أن تنتظر إلى ما بعد الغروب.
حمدتُ الله أنني أستطيع التخفي والتسلل بتفكيري دون أن يراني أحد.. فدخلت البئر، وشاهدت مناظر مرعبة؛ فمن ينجو من السقوط قد لا ينجو من لدغة أفعى أو عقرب، ومن ينجو من اللدغ قد لا ينجو من الاختناق أسفل البئر بسبب قلة الأكسجين. وكل هذه التضحيات لأجل مياه أشبه بمياه المجاري -أعزكم الله-.
خرجتُ من البئر وفي يدي مقدار غرفة ماء، ولكن لم أستطع استساغتها بسبب رائحة الماء الكريهة، وطعمها المقزز، وما رأيتُ من قاذورات تطفو على سطح ذاك الماء. مشيتُ خطوات قليلة، فسقطت مغشيًّا عليَّ بسبب العطش وحرارة الشمس.
أفقتُ!! فإذا بملمس فراش ناعم، وبجانبي قارورة ماء نقية، وهواء بارد، وهدوء يحفز على التأمل. شكرتُ الله، ومددتُ رجلَيَّ إلى الأرض فإذا بملمس سجاد ناعم. شعرتُ بكمية فرح كبيرة؛ فأخذت نفسًا عميقًا؛ فتخالط شعوري الجميل برائحة عطر جميل. وزاد جمال كل شيء حينما سمعتُ صوت أمي تقول "يا حمد!! قم لصلاة الفجر". هنا علمتُ أنني في غرفتي، وأن كل ما يحدث كان حلمًا. امتزج حمدي بشهيق البكاء حينما وضعتُ يدي على صنبور الماء، وبحركة بسيطة، وبدون جهد، أتاني الماء لأتوضأ بماء نظيف ونقي.
أخي/ أختي، قبل أن أختم لا أنكر وجود الجوانب المشرقة والمشرفة في حياة أجدادنا، ولكن جميعنا يؤمن بأن ما جاء به تفكيري كان واقعًا مريرًا، يتكرر حدوثه على الأجداد في حياتهم. ونعمة الماء التي –للأسف- يحتقرها بعضنا لوفرتها، وسهولة الحصول عليها، كانت عندهم ثروة نادرة؛ يموتون من أجلها!
الخلاصة أنا/ أنت الآن نعيش في نِعَم كثيرة، كان أسلافنا يتمنون أبسطها؛ لذلك يجب الإكثار من شكر الله. وهذه النِّعَم -بعد مشيئة الله- دائمة ما دام الأمن والأمان. ولنعلم أنه لا يوجد ضيق بدون فرج، ولا عسر بلا يسر، والأرزاق بيد الرزاق، والأوطان لا تُبنى إلا بتضحيات وسواعد أبنائها وبناتها. ونصيحتي لك أنت بالتحديد: هذا الوقت عصيب على العالم أجمع؛ فلا تجعل لمن باعوا أوطانهم سبيلاً للوصول لعقلك، وتأمل نعمة واحدة بعقلك وقلبك، هي نعمة الأمن والأمان؛ إذ إننا نقطع آلاف الكيلومترات وحدنا، ونذهب لأعمالنا وخلفنا نساؤنا وأطفالنا في منازلنا وحدهم دون أن نفكر بالخوف عليهم. وقس على ذلك الكثير من النِّعَم، كالصحة والكهرباء وسهولة المواصلات، وغيرها الكثير، التي كان يتمنى أسلافنا أبسطها، وهو صنبور ماء نقي.