يضع في التغريدة المُثبتة في صفحته الشخصية على موقع التواصل "تويتر" ما يقشعر له البدن، ويشبه في معانيه استشعاراً بدنو الأجل.
كتب وهو يرفق صورةً لبعضٍ من أيتام القارة السمراء "عندما تكونوا كباراً، ادعوا الله أن يسامحني على تقصيري لكم، فلم أستطع أن أٌقدّم لكم أكثر مما قدمت. يشهد الله وملائكته أنني أحبكم في الله، ولم أبخل عليكم يوماً بشيء أملكه. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم من فضله. دعاؤكم أحبتي".
صاحب هذه السطور، لم يتمالك نفسه يوماً حين خرج في برنامج "تم" المسائي الذي يقدمه الزميل الإعلامي خالد العقيلي؛ وانهمر دمعه على الهواء مباشرةً نظير رحيل طفلة إفريقية تطوع لإنقاذ حياتها، سبقه أجلها وتُوفيت على حدود تنزانيا.
لا يربطه بتلك الطفلة رابطٌ من قريبٍ أو بعيد سوى الإنسانية والرحمة. لا الدين دينه، ولا الجنس جنسه، ولا اللون لونه.
ذرف السعودي علي الغامدي ذو الأربعين ربيعاً، دموعه، بعد أن عرض البرنامج، لقطةً مصوّرة تجمعه بالطفلة التنزانية "عائشة" قبل وفاتها وهو يطلب منها تقبيله، خلال عمله على علاجها من "الملاريا"، ومن "سوء التغذية"، متطوعاً لا يرتجي مالاً ولا سمعةً ولا صيتاً، عدا رحمةً من ربٍ كريم.
"الغامدي"؛ الذي شاركه أبناؤه أيضاً دموعهم على رحيل "عائشة" التي لم يروها قط لا من قريبٍ أو بعيد، يروي قصته في العثور على الراحلة "عائشة"، ويؤكّد أنه ذات يوم عثر على طفلةٍ، كما يصف، "مُهملةً" على حدود بلادها تنزانيا؛ ما استدعاه لجلبها ووضعها لدى إحدى الأسر التنزانية، وظل يتابع وضعها الصحي ساعةً بساعة.
خلسةً ودون رياءٍ، تكبّد الرجل ديوناً على عاتقه مُثقلة، من خلال اقتراضه خمسة قروض بنكية شخصية، بهدف رعاية الأيتام وتغطية تكاليف رحلاته. طبقاً لما يقول لا تؤلمه تلك الديون، بقدر ما يمتعض ويتألم ممّن يتوقع أنه من الطبقة "الفارهة" أو "الغنية"،- حسب تعبيره -.
هذا الشعور قاده للاستدراك، مُتمنياً الانضمام إلى مركز الملك سلمان للإغاثة؛ ليس لوجاهةٍ أو مالٍ؛ بل للابتعاد عمّا وصفه بعدم تجاوب منظماتٍ إنسانية لم يُسمّها.
ومن باب شكر المخلوق القائم على شكر الخالق -عزّ وجلّ-، لم يشئ أن يخفي الرجل -الغامدي- أن سعودياً من أبناء جلدته تكفل بعلاجها فترةً من الزمن، لكنه توقف عن ذلك ربما لظروفه الخاصة.
ومن منطلق الحرص على تنمية الآخر ودفعه لعمل الخير، روى الغامدي؛ قصة تبني أم سعودية "بديلة"، لشخص دعاه بـ "عبد الشكور"، وُلد يتيماً حاملاً دافع حب العلم، ولا يملك مؤهلاً يخوّله للدراسة الأكاديمية، لكنه وبعد سنوات، أصبح مُشاركاً دراسة الطب لابن تلك السيدة.
وبالعودة إلى قصة الطفلة "عائشة"، التي تسيطر على مخيلة الرجل، فبعد صلاة فجر يومٍ ما، تلقى رسالةً على هاتفه من فريق يعمل معه.. كان مفاد الرسالة "عائشة تُوفيت".
لم يصدق الخبر. يقول عن تلك اللحظة "لدينا كثيرٌ ممّن يحملن هذا الاسم، لم أتوقع أنها هي مَن لقيت بارئها. أُصبت بالذهول حتى جاءت إحدى العاملات معي وأكّدت لي الخبر الذي نزل على قلبي كالصدمة. بكيت عليها أنا وأولادي الذين لا يعرفونها ولم يروها إلا برفقتي في صور ومقاطع مصورة. لم أجد بُداً من الذهاب إلى تلك القرية حيث يكمن جسد عائشة، وقمت بتغسيله وتكفينه على الطريقة الإسلامية، وتم دفنها".
ويُستخلص من قصة الغامدي هذه، التي لقيت ردود فعلٍ واسعة في أوساط المجتمع السعودي -المُحب للخير بسجيته وطبيعته- الذي تحكمه أعرافه الدينية أولاً، وأخلاقه الوطنية ثانياً، العبرة في حب فعل الخير الذي لا يُرتجى من ورائه أكثر من رضا الخالق -سبحانه وتعالى.
خرج الغامدي؛ الذي يكفل 9600 يتيم، ويرعى 4300 أسرة بديلة، في البرنامج يملؤه الحب والشجن والعاطفة- وهذا ديدن السعوديين - على تلك الطفلة.
عُرض عليه مقطع قبل وفاتها يجمعه بها. لم يستطع إلا أن يقول مخاطباً العقيلي؛ مقدم البرنامج "والله مو وقته يا أخي".. بكى.. وردّد "الله يرحمها".. وحيث لا يملك إلا الدموع. ذرف الدموع.
انتهت الحلقة. أُسدل الستار. ذهب العقيلي؛ مُسرعاً يتساءل. أين المُعد؟ أين المُخرج؟ ماذا لدينا لحلقة الغد. جاء فريق عمله راكضاً، سعياً لطرح فكرة حلقة الغد.
"بالمناسبة".. هذا ليس عيباً لا في العقيلي؛ ولا في فريق عمله. هكذا هو العمل في "بلاط صاحبة الجلالة". يستفيقُ شخصٌ ما، صباح يومٍ ما، في جُزءٍ ما من العالم، للبحثِ عن مُعاناةٍ ما، لنقلها لفئةٍ ما دون تحريك ساكن.
"جزماً" فريق عمل برنامج "تم"، حتى إن حرصوا على السؤال اليومي في الصحافة "ماذا لدينا للغد"، لم يتجاهلوا، الشجون الذي ملأ المكان، وتَدبُر الحُزنِ لعقرب دقائق تلك الليلة. بكى المُخرج. المُعد. فريق العمل. والمُقدم "حتى وإن أخفى دموعه".
دُفنت أو "قُتلت عائشة" من جرّاء تقاعس الإنسانية و "مُنظمات متشدقة بعمل الخير والهدف حصد أكبر قدرٍ من التبرعات".
بقي في المشهد عمل الغامدي؛ كعنوانٍ عريض، يُجسّد حُب الإنسان السعودي لفعل الخير. تموت القصص ويظهر غيرها. ستبقى فصول وصور الرحمة وشخوصها إلى أن يرث الأرض وارثها.. وخالقها -سُبحانه-.