أيام شظف العيش وقلة المال والزاد كانت فيها الحياة قاسية على الناس الذين يفنون حياتهم في كد وشقاء، وكان ذلك سواء في نهار الصوم أو نهار الفطر. وعلى الرغم من تلك القسوة إلا أنه كان لتلك الأيام شوق يتدفق لدى مَن عاشوها؛ يحنون للناس والطقوس والحياة البسيطة.
الحياة في تهامة، وتحديدًا في قرى بيش، كانت تعتمد على الزراعة، ولم يكن هناك من طعام إلا الذرة التي تُطحن إن وُجدت في موسمها. وإن كان هناك بعض البهائم التي تدر اللبن فذلك من تمام النعمة كما كان يراها بعض الناس، لكن من القصص التي تروى عن مشقة الحياة يبرز أناس لم يكونوا يجدون غير الماء ليفطروا به، ويبرز أيضًا كيف كان التكافل الاجتماعي والتعاون بين أهل تلك القرى على ضفاف وادي بيش.
بعض التفاصيل والذكريات القديمة يرويها لـ"سبق" الشيخ علي قاسم المش، قائلاً: "غالبًا ما كان بعض مَن في القرية لديه جهاز راديو؛ فيُعلم الناس بهلال شهر رمضان. ولم تكن هناك كهرباء، ولا غرف، ولا غيرها.. والأسرة كلها تعيش في (عشة). وقد تقوم بعض النساء في آخر الليل بطحن الذرة وخبزها، وتسخين الحليب، وعمل وجبة السحور، إما بهرس أقراص الذرة الساخنة وإضافة الحليب الساخن عليها والسكر والسمن، وتسمى الثريث، أو بتسخين الحليب وإضافة قطع صغيرة من عجين الذرة وتحريكها على النار، ويسمى المفالت".
وأضاف: "مع بداية بزوغ الفجر تأتي صلاة الفجر، ثم الانطلاق إلى المزارع والعمل تحت أشعة الشمس الحارقة حتى الظهيرة. وقد يمر أحدهم بالوادي فيقترب من الفضية، وهي حفرة صغيرة، لا يزيد عمقها على متر ونصف؛ ليرش جسده وملابسه بدلو أو دلوين؛ فيبرد بها جسمه من شدة عطش الصوم، وبعدها يعود إلى (العشة) فيضع كرسيه في مقابل الهواء الداخل للعشة؛ ليبرد جسمه، وتبقى تلك الملابس المبللة عليه؛ ليبرد جسمه".
وقال: "وفي العشية قد يذهب أحدهم إلى (المسنى)، وجمعه (مساني)، وهي مواقع صغيرة جدًّا، تُزرع فيها كميات صغيرة جدًّا من الخضار، كالبامية، وحبوب صغيرة جدًّا من الطماطم، وبعض الفجل والباذنجان، ويكون الشراء بالمقايضة؛ فلا يوجد أحيانًا نقود؛ فيعطي صاحب (المسنى) كمية من الذرة، لا تزيد على ملء الكفين مجتمعتَيْن، ويأخذ بعضًا من تلك الخضراوات. وهذا الوضع ليس متيسرًا للجميع. ويتم وضع البامية والباذنجان مع خبز الخمير في التنور (الميفى)، وإخراجها، وهرسها، وطبخها بالسمن البلدي. وكذلك تحضير طبق يشبه الزبادي، يسمى (القطيبة)، وتجتمع الأسرة المتيسرة أحوالها على هذه السفرة المكونة من خبز الذرة الخمير، وطبق الخضار المشوي والمطبوخ بالسمن البلدي، وطبق القطيبة".
وأردف: "ويؤدي كبار السن صلاتَيْ العشاء والتراويح في مسجد القرية المبني هو أيضًا من القش، ثم يجتمعون خارج المسجد تحت ضوء القمر للسمر وتبادل الأحاديث عن الزراعة والماشية. أما الشباب فيمارسون بعض الألعاب الترفيهية، كلعبة الساري، أو لعبة المساحر".
وتابع: "عند آخر الليل يأتي موعد وجبة السحور. ولقد كان هناك تكافل اجتماعي بكل ما تعنيه الكلمة؛ فمن كانت لديه كمية وفيرة من الذرة يوزعها على جيرانه، وإذا يسَّر الله عليهم في الخريف أعادوا له ما أعطاهم، وقد يعفو عنهم لوجه الله. وقد يهب أحدهم بعض بقره أو أغنامه للناس حتى يستفيدوا من ألبانها في رمضان، ثم يعيدوها إليه".
وواصل: "افتقدنا تلك الأيام الخوالي وبساطتها، واليوم نفتقد رمضان كما الأمس القريب، ولكن ولكوننا مجتمعًا مسلمًا، يؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بضرورة الأخذ بالأسباب، فقد التزم الناس منازلهم، وكيَّفوا أنفسهم مع الوضع الجديد؛ فتجد الكثير من الأُسر قد خصصت مكانًا في المنزل كمصلى، يصلون فيه الصلوات الخمس والتراويح، ويقرؤون فيه القرآن الكريم، وقد يجتمعون لمشاهدة البرامج التلفزيونية كبديل للزيارات سابقًا والأنشطة الرمضانية".