بلاغة "السّجع" في القرآن.. سحرٌ للجنان وإيناسٌ للوجدان.. وهنا تأملات تستحق التوقف

في حلقة "سبق" الرمضانية "25" مع دكتور البلاغة والأدب "زيد الخريصي"
بلاغة "السّجع" في القرآن.. سحرٌ للجنان وإيناسٌ للوجدان.. وهنا تأملات تستحق التوقف

عُرِفَ السّجع ببلاغته الخاصة التي تُميّزه عن سائر فنون البلاغة، ويَتسِمُ بخاصية تُعطي سراً لجماله، كما يغرس الأفكار ويُرسّخها في الذهن؛ لذا يُلاحظ استخدامها بكثرة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وامتاز ببلاغة تساوي فقراته النثرية، وخلوه من التكلّف والتكرار.

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الخامسة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "السجع" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يومي طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

قال "الضيف المتخصص": يعد السّجع من المحسنات اللفظية، والسجع لغة: الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على روي واحد، وجمعه: أسجاع وأساجيع، وهو مأخوذ من سَجع الحَمامِ، وسَجعُ الحَمامِ هو: هديله، وترجيعه لصوته، والسّجع اصطلاحاً: تواطؤ الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد، أو على حرفين متقاربين، أو حروف متقاربة، ويقع في الشعر كما يقع في النثر، وله ثلاثة أنواع مشتركة بين الشّعر والنّثر: المطرف، المرصع، المتوازي، ونوع خاص بالشّعر: المشطور، ولهذه الأنواع الأربعة مفاهيمها، وقيودها.

بلاغة السجع

وأضاف: للسجع بلاغته الخاصة التي تميزه عن سائر فنون البلاغة؛ لأنه "يؤثر في النفوس تأثيرَ السحر، ويلعب بالأفهام لعبَ الريح بالهشيم؛ لِمَا يحدثه من النغمة المؤثرة، والموسيقى القوية، التي تطرب لها الأذن، وتَهش لها النفس، فتُقبل على السماع من غير أن يداخلها مَلل، أو يخالطها فتور، فيتمكن المعنى في الأذهان، ويَقر في الأفكار، ويَعز لدى العقول".

السّجع بين القبول والرفض

وأتبع "دكتور البلاغة والنقد": تباينت آراء المتقدمين في قبول السّجع؛ فمنهم من يرفضه البتة، ومنهم من يقبله ويفضّله على غيره، قيل للشّاعر العباسي عبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرّقاشي: "لِمَ تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي، وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر؛ فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه انشط، وهو أحق بالتقييد، وبقلة التفلت، وما تكلمت به العرب من جيد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره".

آيات وشواهد

وأردف الدكتور "الخريصي": ومن شواهد السّجع ما جاء في أول سورة الفجر، في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِ الْمِرْصَادِ} "الفجر: ١ – ١٤"، لاحظ هذا الجرس الذي وقع في هذا المقطع من الآيات، حيث شدك إليه شداً، ولا تكاد تنفلت جوارحك حتى تنهي هذا المقطع دون ملل أو كلل، حتى يتمكن هذا المعنى منك، ويعلق في ذهنك، والذي أسهم في ذلك "تسكين أواخر الراء وأواخر الدال كي يظهر السجعُ، ولو حركتَ حرف الراء والدال فات الغرض من السجع، ربما يحذف حرف أو يُزاد حرف لأجل السجع، ويظهر ذلك جلياً في آيات سورة الفجر السابقة فحذف حرف الياء من الفعل: {يَسْرِ} بدون جزم دال على ذلك، وذلك لتمام الفاصلة، وحذف كذلك حرفَ الياء أيضاً من الاسم: {الْوَادِ}".

وواصل حديثه: يكثر حذف حرف (الياء) في آي الذكر الحكيم؛ مراعاة للفاصلة القرآنية، ومن شواهده: قوله تعالى: { أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِر مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادِ} "الرعد:33"، حيث حذفت (الياء)، من قوله: { هَادِ}؛ وأصل اللفظة: هادي؛ مراعاةً للفاصلة القرآنية، ومثل ذلك قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: ٦" حيث حذفت الياء من قوله: {دِينِ} وأصل اللفظة: ديني، فحُذفت الياء؛ مراعاةً للفاصلة القرآنية، وهذا الحذف أعطى للآية وقعها الخاص في نفس المخاطب، فأخذت منه كل مأخذ.

السّجع في القرآن

وقال "الخريصي: مجيء السجع في القرآن ليس اعتباطاً؛ إنما لبيان المعنى، وتثبيته في نفس المخاطب، وليس هذا الأمر محصوراً في السجع فحسب؛ إنما في سائر الفنون البلاغية، إلا أن السجع يتميز بخفته، وسرعة ملاحظته من المخاطب، إضافة إلى هذه الطربة أو الهزة التي يحدثها هذا الجرس، خاصة إذا وقع السّجع في الآيات القصيرة، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} "النجم: ١٩ – ٢٢"، حيث تعاقبت الأسجاع "العزى، الأخرى، الأنثى، ضيزى"، في أربع آيات قصيرة متوالية يشد بعضها بعضاً، فأسهمت هذه الأسجاع في تقبيح هذه القسمة الباطلة التي تزعمها المشركون، يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: "سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره، وتقدّست أسماؤهم، فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العُزَّى؛ وزعموا أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون وافتروا، فقال جلّ ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعُزَّى ومناة الثالثة بنات الله ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ﴾ يقول: أتختارون لأنفسكم الذكر من الأولاد وتكرهون لها الأنثى، وتجعلون ﴿َلَهُ الأنْثَى﴾ التي لا ترضونها لأنفسكم، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ".

ملحظ بلاغي

وأشار: يقول أستاذ البلاغة في كلية اللغة العربية؛ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأستاذ الدكتور "يوسف بن عبدالله العليوي": ينبغي أن ننزه كلام الله -سبحانه- عن قولنا: موسيقى/موسيقا، ونستبدلها، بقولنا: الجرْس..

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org